ثمة دلائل على ان العسكر الأميركيين تحت الضغط يعيدون تنظيم أنفسهم لمواجهة الذيول المدمرة للعراق، والنظر إلى ما هو أبعد من ذلك، حتى والرئيس بوش يصرّ على إرسال أميركيين للقتال هناك والموت. في غضون ذلك المارينز يحاولون الانتقال من العراق إلى أفغانستان حيث المهمة أكثر شعبية ويستطيعون التركيز على الأعداء الحقيقيين لأميركا، القاعدة وطالبان، بدلاً من محاولة لعب دور الشرطي في حرب أهلية. الكلام السابق ليس لي، وإنما هو افتتاحية"نيويورك تايمز"في 16 من هذا الشهر، وهي افتتاحية تعبر عن رأيي مئة في المئة، وكانت ضمن ملف جمعته عن شركة بلاك ووتر وسجل مسلحيها في قتل المدنيين العراقيين، إلا انني انتقلت في النهاية إلى القوات المسلحة الأميركية، فقد تراكمت المعلومات عنها، ووجدتها موضوعاً أهم من شركة حراسة. العسكر الأميركيون في أزمة كبيرة، والقوات الأميركية لا تستطيع خوض حرب أخرى في الوقت نفسه، باعتراف القادة، وما إغراء صغار الضباط بعلاوات تصل إلى 35 ألف دولار للبقاء في العراق سوى رشوة باسم آخر، ودليل يأس. القوات الأميركية كلفت مهمة مستحيلة في العراق هي ان تربح حرباً أهلية محلية، والنتيجة هي ما نرى، والثمن ليس مجرد أربعة آلاف قتيل وعشرات ألوف الجرحى بل هي علة وجود العسكر، ففي استفتاء أجرته"نيويورك تايمز"و"سي بي إس"تبين أن المواطن الأميركي يثق بالعسكر ثلاث مرات أكثر من الكونغرس و13 مرة أكثر من الرئيس، والآن أصبح الأميركي يشعر بأن قواته المسلحة خدعته. إدارة بوش لعبت لعبة قذرة عندما طلبت من الجنرال ديفيد بيتريوس تقديم تقرير إلى الكونغرس عن زيادة القوات، فقد كانت تعرف انه"جنرال سياسي"يهمه الترويج لنفسه، أملاً بتحقيق طموحات مستقبلية، ثم انه ما كان ينتظر من رجل أن يقف أمام مشترعين/ محققين وينتقد استراتيجية وضعها هو. والنتيجة كانت ان بيتريوس قدم معلومات غير صحيحة عن نجاح الزيادة إلى درجة إرجاع القوات الإضافية، وصرح الجنرال وليام فالون، رئيس القيادة المركزية، علناً بأن المعلومات غير صحيحة. وقرأت مقالاً لضابط سابق هو وليام استور عنوانه"إنقاذ العسكر من أنفسهم"لاحظ بعين الخبير ما فات الصحافة، فهو سجل ان بيتريوس استشهد على التقدم سنة 2007 بضبط 1700 متفجرة أكثر مما ضبط سنة 2006، وسأل هل هذا دليل على تحسن الاستخبارات والمتابعة، كما قال الجنرال، أو دليل على ان العراق أغرق بكميات أكبر كثيراً من هذه المتفجرات منذ السنة الماضية. بيتريوس قال أيضاً إن العراق تعهد بشراء أسلحة أميركية بمبلغ 1.6 بليون دولار، ووعد بشراء أسلحة أخرى تبلغ 1.8 بليون دولار. هل هذا تقدم؟ المبلغ كله 3.4 بليون دولار، أي جزء بسيط من نفقات الحرب سنة 2008 التي تقدر بأكثر من 200 بليون دولار، وكل موازنة تعرضت لزيادة، وقد طلب البيت الأبيض 50 بليون دولار موازنة إضافية هذه السنة. وأهم من ذلك ان العراق مدمر، ومن دون بنية تحتية أو خدمات، فهل إنفاق البلايين على السلاح عمل حكيم، وأليس الأفضل إنفاقها على مساعدة شعب العراق للنهوض من عثاره. الرئيس الجديد للأركان المشتركة الأميرال مايك مالن يريد استمرار الإنفاق الهائل على القوات المسلحة الأميركية، وهو أبلغ"نيويورك تايمز"هذا الأسبوع ان القوات البرية الأميركية لم تُكسر إلا انها أصبحت"قابلة للكسر"بعد العراقوفيتنام، وهناك حاجة إلى إعادة تأهيل الجيش والمارينز لعدم قدرتهما على خوض حرب أخرى كبيرة فقد استهلكت القدرات. مجلة"أميركان كونسرفاتف"، وهي كما يدل اسمها محافظة، اتهمت بيتريوس بأنه"المنقذ المنافق"أو المرائي، وقالت انه ربح المعركة في واشنطن وليس في بغداد، ووصفته بأنه جنرال سياسي، لا جنرال مقاتل، فهو لم يحارب حتى وصل إلى العراق سنة 2003. وأختار من أزمة القوات المسلحة الأميركية مثالين يغنيان عن شرح طويل: - اقترح تخصيص 23.6 بليون دولار لشراء عربات مصفحة مقاومة للمتفجرات التي أوقعت أكبر ضرر وإصابات بالقوات الأميركية في العراق. غير انني لا أجد هذا مفيداً، فما سيحدث هو ان الطرف الآخر سيرد بمتفجرة أقوى تستطيع تدمير العربة الجديدة، فهذا مثل صنع مصيدة فئران أفضل، ولا يمضي وقت حتى يأتي فأر أذكى يعرف كيف يتجنبها. - مع عزوف الشباب الأميركي عن الجندية خفض الجيش الأميركي مستوى القبول، والنتيجة ان 11 في المئة من المجندين الجدد قبلوا بعد إلغاء سجل مشاكلهم مع القانون، وبين هؤلاء 1620 متهماً بقضايا جنائية، لا مجرد جنح، كذلك خفض مستوى التعليم المطلوب إلى أقل من شهادة ثانوية أحياناً، ومن دون اعتبار مشاكل المخدرات والإدمان على الخمر عند آخرين. قرأت كثيراً عن أزمة القوات المسلحة الأميركية، ولم أقرأ ما يقنع من حلول مقترحة، غير ان هذه القوات ذات تقاليد عريقة، ومن بلد ديموقراطي ثري جداً وقوي، ولا بد انها ستجد الحل في النهاية، بعد ان نكون نحن والأميركيون دفعنا ثمن طموحات عصابة حرب ضللت رجلاً هرب من الخدمة في فيتنام إلى أمن تكساس، ثم أصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية في بلد أنجب جورج واشنطن ودوغلاس ماكارثر وجورج باتن ودوايت ايزنهاور.