التطورات التي نشهدها على الحدود الشمالية للعراق في هذه الأيام تشبه التطورات التي شهدناها على الحدود الشمالية للسورية في 1999، يومها طلبت تركيا من سورية تسليمها قائد حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المعتقل الآن في جزيرة ايمرالي، مثلما تطلب اليوم من حكومة إقليم كردستان تسليمها قيادات العمال وكذلك مسانديه من أكراد العراق. ويظن الأتراك بأن ما أخذوه من سورية سيأخذونه من العراق، وأنه مثلما أدت التهديدات التركية لسورية الى طرد أوجلان، وفي ما بعد اعتقاله، وانهيار الثورة الكردية التي دامت أكثر من 14 عاماً، فستؤدي التهديدات الحالية الى إنهاء العمال الكردستاني كليا، وتستعيد تركيا نفوذها في العراق، تماما كما فعلت مع سورية. بيد ان الواقع يختلف! فمن المعروف ان تركيا ما كانت لتستطيع تهديد سورية لو لم تساندها الولاياتالمتحدة، وفي الخفاء إسرائيل، وكذلك الحلف الأطلسي حيث تركيا عضو فيه. وما يجري اليوم لا يشبه البارحة: اليوم، تقف الى جانب تركيا سورية فقط من العرب، فيما الجامعة العربية ترفض الاجتياح، وكذلك الولاياتالمتحدة التي تطلب من تركيا"ضبط النفس"وترى ان هذا الاجتياح ليس من مصلحتها. والحق ان الإقدام عليه سيكون سبباً لخلخلة العلاقة بين تركيا والمجتمع الدولي: ففي حين كان وجود حزب العمال في سورية يشكل عقبة في نظر المجتمع الدولي، يشكل اليوم وجود العمال الكردستاني الورقة الرابحة للمجتمع الدولي في العراق، سيما وأن تركيا تدعي أن حقوقاً وطنية في مدينتي الموصل وكركوك. وهذا فضلا عن ان كردستان العراق كانت تشكل الحديقة الخلفية لتركيا، وكان بإمكان الأخيرة ان تصول وتجول دون ان تتعرض الى المساءلة، واليوم تشكل هذه المنطقة الحديقة الخلفية للولايات المتحدة ومقرّ الاستراحة لجنود القوات المتعددة الجنسية. ثم، في تسعينات القرن المنصرم كانت تركيا تستطيع ان تفعل الكثير لاعتبارها"بوليس"الغرب"الإمبريالي"في الشرق الأوسط. وهذا لا يعود صحيحاً في ظل التوتر مع واشنطن. والحق ان تركيا تعيش في أسوأ أيامها مع الحكم الإسلامي، والتناقض الذي يطل برأسه بين فترة وأخرى بين الحكومة والجيش حارس العلمانية الاتاتوركية لم تشهده من قبل. سابقاً كان لانسجامهما أن انعكس ايجابيا على علاقة تركيا بالخارج الدولي. وتركيا الآن اختلفت، إذ يحكمها الإسلاميون، ولا تزال خياراتهم غامضة. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة اليوم: هل ما نشهده الآن يشبه الى حد ما الوضع في البلدان العربية، حيث التزاوج بين الأصولية"الإرهابية"والقومية"المتطرفة"؟ إذ ماذا يعني ان يخرج البرلمان بأغلبية الأصوات ما عدا الصوت الكردي مُجيزاً اجتياح كردستان العراق؟ وماذا نسمي التماهي الإسلامي-التركي مع القومي-التركي في المواقف تجاه الأكراد؟ كل المؤشرات تقول ان الحرب قادمة الى إقليم كردستان العراق، وأنها أكثر جدية من ذي قبل، ولعل جديتها تكمن في ان حكومة رجب طيب اردوغان الإسلامية ومعها القوميون حسمت أمرها لصالح الاجتياح، ولم يبق أمامها أي إجراء قانوني مطلوب، من غير أن تعير أي اهتمام لردود الفعل الدولية، أكانت أميركية أم من الجوار. والحرب إن لم تكن من أجل العمال الكردستاني، فانها ستندلع من أجل كركوك، وتالياً العراق ككل. فتركيا مولعة بأن تستعيد نفوذها فيه، وقد بدا ان"الجبهة التركمانية"حليف أنقرة الأساسي في العراق عاجزة عن تحقيق نفوذها برغم الدعم المادي والمعنوي الذي حصلت عليه من الحكومات التركية. فهذه الجبهة تعيش أزمة خانقة حيث الانشقاقات المتتالية تصيب جسدها، وهناك شريحة واسعة من الشارع التركماني ترفض الانصياع لما تقوله. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: الى أي مدى ستتمكن حكومة إقليم كردستان من منع الحرب القادمة؟ الأكراد، حتى هذه اللحظة، عاجزون عن إقناع تركيا بأنهم يحاولون منع عناصر العمال الكردستاني من التسلل عبر الحدود وتهديد الأمن القومي التركي، ولعل السبب يعود الى ان أنقرة امتنعت عن سماع الخطاب الكردي الموجه إليها، فهي لم تسمعه على رغم وجود أصوات في صحافتها تنصح بالعكس، وهناك عشرات من الكتاب الأتراك يرون أنه ليس من مصلحة تركيا ملاحقة العمال الكردستاني في داخل الأراضي العراقية. ومثلاً لا حصراً، يتساءل الكاتب التركي ممتاز ارترك اونه في جريدة"الزمان":"... ولعل من حقنا ان نسأل، ما الذي قدمناه لأهالي تلك المناطق من اجل وقف الإرهاب والحد منه؟ هل سمحنا لهم باستخدام لغتهم الأم أو أعطيناهم حقوقهم الثقافية التي نقر نحن بها؟ ان المنطق العسكري يقوم على إلغاء النتائج ويتوقع زوال الأسباب". وأكراد العراق، في حقيقة الأمر، فعلوا من جانبهم كل ما طلبته تركيا منهم: ففي وقت سابق مشّطوا الأماكن التي يتواجد فيها عناصر العمال الكردستاني وراقبوا حدودهم فلم يطرأ حدث حدودي واحد منذ ان تولوا حكم مناطقهم، وكل الحوادث تجدّ في عمق الأراضي التركية ومن جهة الحدود مع إيران. ونتيجة لضغط أكراد العراق أعلن حزب العمال أكثر من مرة هدنة من طرف واحد مع الأتراك، كما امتنع عن فتح مكاتب في محافظات إقليم كردستان الثلاث، ولم يدع الى أي مؤتمر يتحدث عن القومية الكردية. وفي المقابل فتح أكراد العراق أبوابهم للمصالح التركية: فهناك 300 شركة تركية تستثمر في كردستان العراق، وقد سعوا ان تكون للأتراك جامعة خاصة في كردستان وطلبوا منهم ان يقوموا ببناء بنك اربيل المركزي، فضلا عن فتح أبوابهم للإعلاميين الأتراك ممن تحركوا ويتحركون بل حرية وأمان. بيد ان الأتراك، من جانبهم، لم يعيروا أي اهتمام لما قام ويقوم به الأكراد. وهو مفهوم تماماً متى كان القرار الضمني تكرار ما حدث في سورية مع العراق. * كاتب كردي.