هل يحقُّ للشاعر أن يتكلم على شعره؟ كم يحقُّ للشاعر أن يتكلم حول تجربته الشعرية، أن يخرج من نفسه وينظر إليها من مَيل آخر، ومن ثم يقدم لنا شهادةً، ضوءاً على مسافات في رحلته مع الكلمات، أن يخرج الشاعر من نفسه ليقولها بلغة أخرى غيرَ لغة الشعر... هل يعني هذا أن قصيدة الشاعر لم تكن كافية، لأنها ليست كلّ صوته؟ أي شك يعتريني، الآن، وأنا أخرج من الشاعر لأتَّخذ لنفسي موقع المتلصص على نفسه. * * * لطالما اعتبرتُ الفنان شخصاً متطرفاً. إنه رؤيوي بصوت إنساني. مخيف، بالنسبة إليّ، أن يكون المرء نبويِّاً، كما اقترح بعض شعراء العربية الذين سبقونا إلى كتابة شعر جديد. والآن، أتساءل بين متسائلين آخرين قاربوا أسئلة مشابهة، إلى أي مدى نحن شعراء مجدِّدون؟ وما الحداثة، وقد حوّلتها خطاباتٌ متناقضةٌ ومتضاربةٌ إلى شيءٍ يشبه العقدةَ مرةً والفوضى مراتٍ؟ وإذا كان الشعر قد تغيّر، فهل تغيّرت الرؤى العميقة المحرّكة للشاعر، والباعثة على الشعر؟ لماذا لا يكفّ الشاعر العربي عن توقّع إمكان لعب دور البطل المتفوِّق على الزمن، بدلاً من أن يكون شخصاً في قرية أو مدينة؟ أسئلة طالما شغلني التفكير فيها، وحضّني انشغالي بها، أحياناً، على عدم الاكتفاء بقصيدتي. * * * هل أستطيع أن أتكلم عن نفسي من دون أن أسقط في فخِّ الانتماء إليها بصورة صارخة، من دون أن أتشرنق وأتوارى حيث يبدأ الوجود وينتهي في شخص واحد؟ فلأجرِّب إذاً طريقة أخرى، ولتكن رحلة بين مجهول النفس وشمس الورق. * * * يولد الشاعر انتحارياً، ويولد منتحراً. إنه كشاف غوامض، وغوّاص في وجودٍ يظلُّ مجهولاً وعصياً على الكشف. وهو في غوصه يندفع في مغامرة تأخذ شطرَ الخطر، وتهدِّد باللاعودة. ولا يتحقق الشاعرُ إلا في تلك الاندفاعات الشعورية المتطرفة المعبرة عن نفسها في حالات متبدّلة ومتغيِّرة، سرعان ما تترجمها إلى شعرٍ، مخيلةٌ رهيفةٌ وعلاقة مع الكلمات لا تقرّ على نظامٍ ولا تأمنُ نظاماً. لذلك يبدو لي، باستمرار، وبشيء من الإدراك الحسي أن الشاعر إرهابي، لما في علاقته باللغة والأشياء من تطرف وتمرد، على رغم ما في مسلكه من علامات لطف، وعلى رغم ما يسبغه حضوره في العالم وعلى الأشياء، من لطائفَ ونباهاتٍ. إرهابي، بمعنى أن كلماته، صياغاتها، صور مخيلته، دلالاتها، إيقاعاته، عنف الطاقة التي فيها، عناصر الإدهاش، مصادرها في اللغة، منطقه، سمات التوتر الشعوري الكامنة في الكلمات، حركة الجمال في ظلال لغته، اللحظات المجسّدة كأسرار، كل هذا، وغيره أيضاً، في أوقات وحالات من حياة الشعر وحياة الشعور، يملك أن يُرهبَ. كم مرة قيل لشاعر كلماتك ترهبني؟ * * * يولدُ الشاعرُ مراراً. في كلِّ قصيدةٍ له مولدٌ. وفي كلِّ مولدٍ له روحٌ جديدٌ يهدِّدُهُ الموتُ. والقصيدةُ التي لا تختلف عن غيرها من قصائد الشاعر تنذرُ بموت روحٍ من أرواحه. في دورته الشعورية نظير دورة الدم في الكائن وفي الجينات التي تولّد صفاته المائزة يسري طابعه الخاص. لذلك لا تعني الكتابةُ شيئاً مهماً لشاعر، ما لم تصدر بقوة وطغيان حقيقيين عن تلك المنطقة الأعمق فيه، حيث يسكن كائنه الأحبُّ، شخصُه الأول: الطفلُ النائمُ، المستيقظُ، اللاعبُ، الدهشُ، الغاضبُ، المتفرِّجُ، الساهي، المتردِّدُ، الخائفُ، النافرُ، المستعدُّ، الفوضويُّ، الأنيقُ، المشاكسُ... ولكن، دائماً، العاشقُ النزقُ المتطرِّفُ. لا تتحقَّقُ الكتابةُ في أبهى حالاتها قبل الوصول إلى هذا الطفل المتواري فينا. وما يتمُّ هذا لكائناتٍ يَعوزُها نزوعٌ جامحٌ علامتُه انحيازٌ مطلقٌ ونهائيٌّ نحو الحبِّ، واستلهامٌ للجمال هو في حقيقته شوقٌ إلى الحرِّيَّة. عند هذه التخوم يولدُ الخَطَرُ، ومن صدمةِ المعاكِس والمخالِف يتخلّقُ المفارقُ والمأسويُّ.... * * * الشعراءُ الحقيقيّون هم، عندي، أولئك الذين كتبوا شعرَهم وهجستْ أرواحُهم بالموت، وكادت أجسادُهم تميل وتذهبُ بخفةٍ وسعادةٍ، ولم يفصحوا، في أيِّ وقتٍ عن رغبتهم في الانتحار، لكنهم عاشوا صراعَ الفكرةِ، بدمويتها القُصوى، مع كلِّ كلمةٍ كتبوا. هؤلاء المتطرفون هم الشعراء. مع كلِّ قصيدةٍ، للشاعر هناك تجربةُ انتحار، ومشروعُ خلاصٍ من الموت. فالموت له جاذبيَّةٌ استثنائيةٌ، لا سيما عندما يرى فيه الشاعر وجهاً آخر لحياةٍ تختزلها قصيدة تتوق إلى السيطرة على الزمن وإذابته في نسيجها: ماضياً كذكرى، حاضراً كذكرى، مقبلاً كتوقع منذور لأن يتحول إلى ذكرى. هنا، في انشغالِ الشاعرِ بالهارب، ربما، يكمن الكشفُ عما هو عبثيٌّ في وجودِ الكائنِ، وما هو خالدٌ في الفن، بينما هو يقف على الزمن كحدوث متصل يرفعه الانسان إلى مرتبة القدر. * * * في حركة الكلمات يتحوَّلُ الزمنُ بكلِّيته إلى حَجَرٍ.. ليكن ألماساً، لكنه حجرٌ يطوّح به الشاعرُ نحو الأقصى من الوجود، ونلمحُه في الشعر كشهابٍ يندفعُ، ونسمِّيه، من ثم، انخطافَ القصيدةِ نحو جاذبيةٍ طاغيةٍ. لكن الحجرَ لا يني يرتدُّ عائداً إلى المدار كفلك مضيءٍ مُغْرٍ. طغيانُ الجاذبيَّةِ، وعنادُ الأشياءِ يصنعانِ قَدَرَ الانسانِ المضادّ لحريته، وانفتاحَ الحريَّةِ على الموت. * * * إن مغامرة الاكتشاف عبر النفس قد تقود عالِماً في الفيزياء إلى السيطرة على الذات ومحيطها معاً، لكنها بالنسبة إلى الشاعر تحمل مخاطر الوقوف على نهاية العالم. مخاطر الهلاك. إن الشعر للشاعر تجربة قاتلة لمجرد كونه انفتاحاً هائلاً على العالم، واستعداداً للفناء فيه، على اعتبار أن ما من تجربةٍ ذاتِ لهبٍ قدسيٍّ ما لم يكن خوضُها حدثاً غير مسبوقٍ، بكلِّ ما يعنيه ذلك من صداماتٍ وارتطاماتٍ للشعور وهو يرهفُ ويشفّ حتى ليكادُ يذيبُ صاحبَه ويسكبه في كلِّ مرئيَّةٍ من مرئيّاتِ الوجود، فلا تعود تستحقُّ التجربةُ اسم المغامرة لو ظلَّ شاعرها دون هذه الحالة. وهذا ضربٌ ساطعٌ من ضروبِ التطرف. * * * من هنا أيضاً، من تحوُّل المرئيِّ عن عاديَّته إلى غموضٍ ينادينا لنكشف سرَّه يتلغَّز الجمال، ومن هبوب الفراغ، من مغادرته شيئيَّته ليعبر الحواس ويتحقق كخلاءٍ حيٍّ ينذرنا بولادةٍ ما، يولد الشعر مفاجئاً ومدهشاً، ومخيفاً في طاقته وغموضِ خروجه من عماء الحواسّ إلى نور الكلمات. وما الكلمة بعد ذلك غير نعمةٍ تهدِّئُ الروع، لكونها تضبط ذلك الانفلات المخيف للروح، ذلك السَّرحان، ذلك التيه والهيام حدَّ التلاشي في الأشياء، ومن ثم التحول فيها، ليس على نحو ما يَحْدُثُ للدراويش والمتصوفة في انجذابهم نحو المحبوب الذي هو الحق، فما تقرُّ عينُ الحبيب حتى يقرَّ في محبوبه وقد أفناه الوجدُ، إنما على نحو يبعث في الكائن مع كلِّ تجربةٍ روحاً جديداً. فالكلمات في شعر هي نظام من العلاقات يمسك بالشاعر عن خوضٍ أبعد، يستعيده إلى الحياة وهو يكادُ أن يُفْلِتَ، فلا يترك له أن يتبدَّد. فهي نظامٌ له القدرةُ على إعادة التشكُّل في حَيِّزٍ من الاستقلال عن الشاعر، يتضاءل ويعظم. وللشاعر مكابداتُه، وصراعُه مع هذه القدرة. لكنهما، في حدودٍ غير متعيِّنة، نظامٌ وتشكيلٌ يصونان حياة الشاعر، يبقيانه في تخومٍ من الانفصال يمكن الأرضِ أن تستعيدَه منها. هنا، من تعقيد العلاقة بين الشاعر ومخيِّلته، والشاعر ولغته، وبين المخيِّلة والتجربة الإنسانية لصاحبها. في هذه الشبكة المركَّبة، تكمن الهِبَةُ في صورةِ قصيدةٍ. ومن ثم القصيدة حقلُ دلالاتٍ التحققِ والاخفاق معاً، وما الرجوع بها غير دليل ناقص على: الخلاص من الموت... العودة بسلام... إلى ماضٍ آخر على صورةِ مستقبلٍ، هذه المرة، إلى ما قبل القصيدة وبعدها. أيضاً إلى ما ينسف وجودها تماماً، للبدء من جديدٍ في مغامرةٍ كيانية أخرى. القصيدة، إذاً هي الهِبَةُ الشقيَّةُ. فأن يبقى الشاعر بعد ولادة القصيدة، ألا يموت بولادتها، ألا يموت بموتها... أن يقبض الثمن... ألا يدفعه أبداً... أنَّ... وأنَّ... ذلكم هو المأزق الوجودي الأفدح للشاعر، ودليل، بلا علامات، إلى محن لا تنقطع. * * * عند آفاق كهذه نعثر في شعر الشاعر على بذرة الانتحار، حيث تختفي الكلمات وتولد الصور، وحيث يتلاشى النحو ويولد الصوت، ويُرى، ولكن من جهات لا مرئية، يصعب تحديدها. ننسى الشعرَ في سطوع الشعور كطغيان نهائي لجاذبية الروح وجمالات تفتحها على العالم. صور تخلب وتصدم، وأصوات تُغْبِطُ وتُقْلِقُ. ومن ثم سيخيفنا ما يبرق ويوسوس في هذا الذي نسميه الشعر، ثم لا نعثر له على قواعد نشد إليها جسده الزئبقي النافر على سطوح متوترة، ولا على تقاليد تسبق القصيدة كأثر يتيم. * * * إن كلَّ شعرٍ يذكّرنا بنظير أو يحيلنا على مَرْجِعٍ له، إنما يعتوره خللٌ فادحٌ فيه مقتله. القصيدة إذاً، هي الهِبَةُ التي رجع الشاعر بها، وبواسطتها، من انتصار على الموت. والغريب أن الشاعر سرعان ما يُعْرِضُ عن هذه المكافأة، ويبدو كما لو كان يتنكّر للنِّعمة ومانحها، إذ يتحول انتباهه عنها، ويتهيأ لحدث آخر. قد يشعر بعض مرهفي الحس والذكاء من الشعراء بمشاعر مركّبة ومتناقضة بإزاء قصائدهم، مشاعر تدخل فيها عاطفتا الحب والكره، وكذلك الخوف، وربما أحاسيس هي غبطات جسدية هاربة. ولا غرابة في الأمر. أوَلم يلحّ شعراءٌ ومعهم نقادٌ على تشبيه لحظة ولادة القصيدة بذروة النشوة، يكسر بَرْقُها الصُّلْبَ. أو تكون القصيدة حقاً أثراً مما هو خاطف في لقاء جسدين عاشقين؟ والسؤال الآن: من كان الطرف الثاني في لحظة الشاعر عند ذروة الخلق؟ امرأة؟ ذات أخرى؟ أم هي اللغة"كائنها السري؟ * * * لأي قارئ سأقول كُفَّ عن تذكّر اسمي، وانس أنكَ عرفتَ هذا الاسم، إنس وجودي لأتمكن، أنا أيضاً من نسيانه، لأتمكن من أن أجهل اسمي ووجودي اللذين لا يكفان عن تهديدي. خذ القصيدة، واترك الشاعر. لا تفكِّر بي بالطريقة التي فكَّرْتَ أنها تليق بهذا الشخص... الحقائقُ هي الأوهامُ، لقد امتلأت وهماً، وملأتك، ولم يعد ينقصني، إذا أصلُ وأجدُ يومَ الناس مسجَّى في دمٍ لا نهايةَ له، إلا أن أتمدَّدَ فيه، وأُشبهه، أن أشعر بقوةٍ أنني هالكٌ مثله، أن أكفّ عن الاعتقاد بانتصارٍ طالما هددني به وجودي، فأغريتُ به نفسي وأغريتك، أيها القارئُ الوهميُّ، القارئ الذي طالما توهَّمْتُ. لم يعد يكفيني لأستحقَّ عبورَ هذا اليوم، إلا أن أخون صورتي، إلا أن أتمادى في خيانةِ صورتي. * * * الكلماتُ تحملني على التساؤل: من الأكثر خطورةً: الشاعر أم القارئ؟ الشاعرُ يلعبُ بدمه والقارئُ يتفرَّجُ. يلعبُ الشاعرُ بدمه، لا لأنه يستهينُ بوجوده، ولكن لأن نداء عميقاً، مساً غريباً يسري في دمه، ويهمس إليه، فيُفْتَتَنُ حتى ما يعودُ يُطيق حدوداً لجريانِ الرُّوحِ في الجسد وجريانِها في الأشياء. أهو"همس الأسرار""النِّعَمُ السريَّة"، الجمالُ مروِّعاً، والجمالُ مروَّعاً لأن المخيلة تعمل، حرّة ومنفلتة حتى من شاعرها... * * * يخسرُ الشاعر كلَّ شيءٍ ولا تبقى له إلا الكلمات... وعندما لا تبقى له حتى الكلمات، عندما لا تعود تكفيه، عندما لا تعود ممكنةً، من الأخطر، أهو ذاك الأكثر ديمومة؟ أم الأكثر عَرَضاً في عبورِهِ وانقضائه؟ بالكلماتِ يثري القارئُ بما يملأه شعوراً وضياءً، ويذهبُ الشاعرُ إلى فراغه المعتم. لمنْ أكتبُ، لمنْ كتبتُ هذه الكلمات؟ * مقاطع من نص طويل هو مقدمة نوري الجراح لأعماله الشعرية التي تصدر قريباً عن المؤسسة العربية، عمّان ? بيروت.