تحرص الجمهورية الفرنسية على تعليمها العالي، فهي تعتبره الاستثمار الأهم على المدى البعيد والشرط التنافسي الأول في عصر العولمة، لذا فهي تضع مستقبل طلابها في أعلى أولوياتها ولا تتردد في التعاون مع القطاع الخاص لمساعدتها في حملها الثقيل. فرنسا التي بدأت جامعاتها بالتكون منذ القرون الوسطى، اعترفت رسمياً بالجامعات الخاصة في قانون صدر عام 1875 ويجيز لمن يرغب، فتح جامعة خاصة، شرط أن يتوخى المعايير العلمية. وفيما يرفع هذا البلد شعار العلمانية المطبق على الجامعات الرسمية وفق"قانونJules Ferry" لعام 1881، إلا أنه لا يمنع الطوائف من فتح جامعاتها على أن تقوم الدولة بمراقبة نشاطها. أكثر من مليوني طالب بينهم 85 في المئة فرنسيون يتوجهون كل عام إلى الجامعات الرسمية، وعددها في المناطق الفرنسية كافة لا يزيد عن 84 جامعة، تقابلها 300 جامعة في القطاع الخاص. وهذه الأخيرة تراوح تسمياتها بين جامعة خاصة ومعهد عال ومدرسة متوسطة وغير ذلك من التسميات، لكنها لا تحتضن أكثر من 200 ألف طالب، ويطلق عليها اختصاراً الجامعات الخاصة. ولا يعتمد اختيار طالب التعليم العالي بين الخاص والعام، على تكاليف التسجيل التي تبلغ في الجامعات الرسمية نحو 400 يورو سنوياً، فيما ترتفع في الخاص إلى 7 آلاف يورو، علماً أن هناك معاهد عليا خاصة تطلب أكثر من هذا المبلغ بكثير. وعدم توقف الطلاب عند هذا الفارق المادي يعود إلى أن الدولة الفرنسية تقدم مساعدات على شكل منح أو قروض ميسرة، تعطى وفقاً لمعايير اجتماعية ومادية معينة ويستفيد منها الطالب المسجل في الخاص والعام على حد سواء. إضافة إلى أن الجامعات الخاصة تقبل التقسيط على مدار العام، كما يرتبط بعضها بشركات تمول دراسة الطالب شرط عمله معها بعد تخرجه. تقول إيزابيل 21 عاماً لپ"الحياة": إن تكاليف التسجيل الجامعي لم تكن عاملاً مهماً في اختيار الفرع الذي تحبه فهي تعلم أن التكاليف الأخرى من سكن ومواصلات وغير ذلك، تفرض على الطالب أن يشتغل في ما يسمونه"الأعمال الصغيرة"كالبيع في مطاعم الوجبات السريعة أو جلب الأطفال من المدارس ومجالستهم أو إعطاء دروس خصوصية. لكن إيزابيل التي تدرس في كلية الطب تتململ من صعوبة القبول في بعض الكليات التي تعتمد على مسابقة دخول وليس امتحان قبول، ما يعني أن كلما زاد عدد المتقدمين الى الكلية قلت إحصائياً فرص النجاح بالدخول. النظام التعليمي في فرنسا في حالة دائمة من إعادة التقييم. ومنذ عام 2001 يحاول القائمون على هذا النظام تقريبه ما أمكن من النظام الأوروبي. النظام المعتمد حاليا هوLMD. أي ليسانس، وهي شهادة تعطى بعد ثلاث سنوات من الثانوية العامة البكالوريا. يجمع الطالب خلالها 180 نقطة، أي نظرياً 30 نقطة في الفصل. لكنه ليس مضطراً لتجميعها في فصول متصلة، فبإمكانه إتمام أحد الفصول في بلد أوروبي معين ثم العودة الى فرنسا ثم التوقف فصلاً أو فصلين للعمل. و Mاي"ماستير"وتعادل بكالوريا + 5 سنوات. ثم بعدها الدكتوراه و تعادل بكالوريا + 8 سنوات، كحد أدنى. ويمكن للطالب أن يتوقف عند أي من الشهادات المذكورة، كما يمكنه التنقل بين الجامعات العامة والخاصة بمجرد موافقة الجامعة على طلبه واعترافها بشهادته. حسن 23 عاماً طالب لبناني يدرس في فرنسا الهندسة الالكترونية. قال لپ"لحياة"إنه استفاد من أن النظام الفرنسي يفرض على طالب الفروع التقنية أن يكون أتم بنجاح سنتين تحضيريتين تتم فيهما دراسة مكثفة للمواد العلمية-التقنية وبعدها يمكن التوجه إلى اختصاصات عدة. وهو درس السنتين المذكورتين في جامعة رسمية ثم تابع اختصاصه في الالكترونيات في جامعة خاصة. وهذا بالتحديد ما شددت عليه مصادر في وزارة التعليم العالي والأبحاث، إذ استغربت السؤال عن تنافس بين القطاعين العام والخاص في مجال التعليم العالي وأكدت التكامل. ففيما يرتفع طلب سوق العمل على الاختصاصات المحددة والجديدة، ترحب الدولة بكل من يفتح آفاقاً مغرية للطلاب أو نشر مراكز التعليم العالي بشكل أكبر في المناطق التي تشكو من تمركز الجامعات في المدن الكبرى. وعلى رغم هذه المباركة إلا أن الدولة لا تسمح حتى الآن للجامعات الخاصة بإعطاء الشهادات نفسها التي تعطيها الدولة، وهي تعترف بشهادات ستين جامعة خاصة من أصل ثلاثمئة. وقرار الاعتراف بالشهادة الخاصة يعود للجان مختصة تقوّم مستوى المناهج التي تدرس ومستوى الطلاب ومعلوماتهم ومراقبة الأبحاث التي تنتجها الجامعة. ويثير هذا الأمر حفيظة المؤيدين لمزيد من الحرية في النظام التعليمي. فهم يعتبرون أن سلطة الدولة في الاعتراف بالشهادات مبالغ بها وهي تحرم ذوي الشهادات غير المعترف بها من التقدم إلى الوظائف الحكومية. ويرد أصحاب الرأي المقابل بأن الدولة يجب أن تضمن مستوى التعليم العالي كما أن الشهادات التي لا تعترف بها الدولة يقبلها القطاع الخاص. وجذب البلدان الأخرى للخريجين الفرنسيين، يرعب الجمهورية، وهي من بين الدول القليلة التي ما زالت تصرف على تعليم أبنائها. مصاريف هذا التعليم تبتلع سنوياً أكثر من 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي علماً أن نصف موازنة التعليم في فرنسا تذهب إلى البحوث والتعليم العالي. ولكن بعدما يتخرج الباحث الفرنسي يجد عروضاً أكثر إغراءً في الولاياتالمتحدة الأميركية أو الدول الاسكندينافية فيترك كنف الدولة التي أنفقت ويحلق بعيداً من نظرات دولة تتساءل عن فائدة التعليم الخاص أو العام إذا كانت عيون الشباب معلقة على الأفق البعيد؟