أمران يتناولهما هذا الموضوع: السياق العام الذي انتهى اليه آخر كتاب صدر عن كمال جنبلاط "الرجل والأسطورة" للكاتب الروسي السوفياتي سابقاً ايغور تيموفييف دار النهار، بيروت، وهو سياق قدم كمال جنبلاط قائداً مأزوماً بل محبطاً، وهو الذي كانت نفسه عامرة بالثقة بالنفس والايمان، وكانت ذاته اشراقية تتجاوز ما يشدها الى تراب الأرض ولا تقف عند مكاسب لم يطمح اليها يوماً لكي يتشاءم عند امتناع التحقق. ثم انه سياق المح الى رغبة في التقاعد والابتعاد عن المسؤولية وهو الذي يعرف قدره التاريخي في القيادة واستمرارها. واستند ذاك السياق الى شهادات كثيرين ممن كانوا تحت جناحي كمال جنبلاط، والذين كانوا هم أصحاب مطامح فراحوا يتحركون في كل اتجاه محاولين التفلت من قيادته ورؤيته. أما الأمر الثاني فكلمات وأقوال لم تنشر يوماً لكمال جنبلاط تعود الى العام 1968، لكنها باقية في قدرتها على التعبير عن كل ما هو مفيد ومهم في هذه المرحلة والمستقبل معاً. وفي هذين الأمرين معاً يبقى كمال جنبلاط الحاضر دائماً في الأزمة والحل. لذلك لا ضرورة لاستحضار جنبلاط في مناسبة ميلاده أو رحيله، أو في أي مناسبة أخرى يستحق فيها التكريم، لأنه حاضر في كل المناسبات الكبيرة والصغيرة في لبنان والمنطقة العربية والاسلامية ككل. فأي عودة الى كتاباته وأقواله وممارساته توضح ان هذا الزعيم التاريخي والمفكر والسياسي كان في الأزمة والحل لكل مشكلات لبنان ولمعظم مشكلات المحيط العربي والاسلامي مع ابعاد عالمية لكل سيرة حياته ترقى الى الكونية. فالذي ورد عن كمال جنبلاط في كتاب ايغور تيموفييف الى وقائع تؤكد حضوره الشمولي ذاك، الا ان الكاتب انتهى في كتابه الى تقديم كمال جنبلاط زعيماً مأزوماً ملأت الغصة نفسه، في حين كان كمال جنبلاط الأقدر على الرؤية الواضحة والمعرفة الواثقة وهو انه لا يريد رئاسة لبنان، وانما يريد حكمه عن طريق تصحيح مسارات الحكم فيه، وهو في كل حياته السياسية تمكن من ذلك ولو بنسب متفاوتة. فهو أملى صيغاً سياسية واقتصادية واجتماعية في الحياة اللبنانية كلها شغلت الحكام والسياسيين وان لم يكونوا معظمهم بقادرين على الأخذ بها، ومن اخذ بها لم يكن مخلصاً في ذلك أو كانت ذاته هي الهدف وليس مصلحة الناس. والذي يؤكد ذلك ان كمال جنبلاط وضع أكثر من 14 مذكرة اصلاحية تتضمن بنوداً سياسية واقتصادية، كان آخرها البرنامج المرحلي للأحزاب عام 1976 الذي يُعتبر مختصراً لكل مذكراته تلك. وكان في طروحاته الاصلاحية أزمة وحلاً في آن: فمنذ ما قبل اعلان استقلال لبنان كان في التناقض بين كتلة بشارة الخوري - رياض الصلح الدستورية وكتلة اميل اده الوطنية، وكان في حل ذاك التناقض عندما اختار طريقاً ثالثاً اثر كثيراً في تطوير كماشة الدستوريين والكتلويين التي كانت تمسك بلبنان، مطلع أربعينات القرن المنصرم واسقاطها. وخلال عهود الاستقلال كلها كان كمال جنبلاط الأزمة المصيرية لحكم الشيخ بشارة الخوري التي انتهت الى رحيل الخوري، ثم كان الحل بمجيء كميل شمعون. كذلك كان الأزمة المصيرية لحكم كميل شمعون، ثم كان الحل بمجيء اللواء فؤاد شهاب. والحال كانت مع عهود تلت، الى ان كانت الأزمة المفتوحة مع الحرب اللبنانية، التي لو بقي حياً لكان الحل لها. ففي مفردات الأزمة الدائمة التي كانها كمال جنبلاط، كان يعرف دائماً ان ترئيس الموارنة للبنان ليس هو المشكلة اذا أبقي عليها رئاسة تفرد في الرمز لا في الحكم، وانما المشكلة تكمن في "مورنة" لبنان كله أي تمكين طوائف اخرى من التفرد برئاسات اخرى أيضاً كتفرد الطائفة المسيحية المارونية. لذا كان لكمال جنبلاط مرشحوه الموارنة الى رئاسة الجمهورية في لبنان امثال وجدي ملاط وجميل لحود وغيرهما يوماً. من هنا لم يكن يريد ان يكون مارونياً، اذا صح التعبير، ليحكم لبنان، لكنه كان يرى ضرورة الوقوف في مورنة البلد عند الرئاسة الأولى، لا ان يتم تقسيمه كله طائفياً، بل ان يتوقف توزيع سلطاته على الطوائف عند حد مورنة الرئاسة فقط، فيترك الباقي للكفايات والقدرات على تحقيق مصالح الناس. وهنا كان كمال جنبلاط يجد موقعه. ان تقديم كمال جنبلاط، في كتاب تيموفييف وفي كل المراحل التي تناولها، طموحاً للوصول الى سدة الرئاسة اللبنانية هو تقدير خاطئ، بل ان ذاك التقديم كان دائماً يرد قبل تيموفييف وكتابه، من سياسيين لم يكونوا في صف كمال جنبلاط، لكنه كان صيغة استعملت ضد جنبلاط لتشويه طروحاته الاصلاحية كلها. كان كمال جنبلاط يعرف تماماً ان المشكلة ليست في ان يكون الرئيس مارونياً بل في ان يكون مارونياً ليست لديه مفردات الحكم الوطني وممارساته لبنانياً وعربياً، من هنا كان يجد ان هناك موارنة يتمتعون بخُلق الرئاسة واخلاقها ومعطياتها الوطنية والعربية. ثم ان كمال جنبلاط كان يعرف ان تقسيم البلد بالصيغة التي كان عليها وتجسدت بحدة عشية حرب العام 1975، سحب نفسه على الفئات الشعبية نفسها، الى درجة لم تعد تعرف مصلحتها في طروحات هي لها ولمصالحها. فالتقسيم الطائفي الحاد أغلق الوعي عند تلك الفئات، وكوّن لديها أفكاراً وأحكاماً مسبقة بات صعباً اختراقها، لكنه ليس مستحيلاً في رأيه، لذا ظل طوال عمره يحاول ويحاول ويحاول. من دون ان يقع في أزمة داخلية ذاتية أو حياتية كما قدمه الكتاب المذكور، ولو عن حسن نية أو "موضوعية". هو لم يقع في أزمة ذاتية، فرجل مفكر وثاقب الوعي ورفيع الثقافة ككمال جنبلاط لا ترتفع به أوهام أو تنخفض، بل هو من الأساس تمكن من الأمساك بوضوح بتفسير المشكلة في لبنان وبلورة فهمه لها، لذا ظل مستمراً في المحاولة عقوداً طويلة من الزمن لحلها، ولم ييأس. انه لم يقع في أزمة حياتية، اذ لا ينقصه جاه يرجوه أو زعامة يعمل لها وهي له في أربعة قرون أو أكثر وبلورها من جانبه في صيغ حديثة للزعامة الفكرية والسياسية تساوي القرون الأربعة تلك، ولا يبحث عن أرصدة كانت له في كل مجال، وفي كل بقاع المنطقة والعالم. وهذا ابعد عنه احتمال ان يكون مأزوماً حتى عندما ضيق العرب والعالم عليه فسحة حركته في السنة الأولى للحرب اللبنانية المفتوحة. وبحسب كتاب تيموفييف، شكلت شهادات الذين عملوا مع كمال جنبلاط، وكانوا تحت جناحيه، وأقوالهم مناخاً للمؤلف ليقدم حال اليأس والفجيعة لدى كمال جنبلاط. في حين كان أصحاب تلك الشهادات والأقوال بدأوا هم يعانون صمود كمال جنبلاط وثباته عند مواقفه، وكادوا يتطلعون الى الخروج من تحت جناحيه ومن تحت مواقفه، بعدما بدأوا يلمسون في تعدد ولاءاتهم مصالح تاريخية لهم، قد لا تتكرر يوماً بل كاد من كانوا تحت جناحي كمال جنبلاط ومن كانوا حوله، يكونون من قتلته في ما كانوا يمارسونه من نقل ما كان يقوله كمال جنبلاط ضمن اجتماعات مغلقة ل"الحركة الوطنية" وهي تجمع الحزبيين الذي كان برئاسته يوماً. وكان ذلك يحدث لاسباب كثيرة يمكن اختصارها في أمر واحد هو ان كمال جنبلاط شكل الحاجز أمام مصالح كل هؤلاء لبنانياًوفلسطينياً وسورياً وحتى عربياً وعالمياً. وكانت حال اللبنانيين في ذلك كما حال بعض القادة الفلسطينيين الذين أشار اليهم الكتاب وقدمهم مضطربي التوجه تارة يعتبرون التحرير يمر في جونيه الى فلسطين، وطوراً يتمنون لو يتخلصون من صيغة لبنان وكمال جنبلاط ليبقى للثورة بريقها. قدر كمال جنبلاط هنا كان اضطراره الى الرهان على هؤلاء، وقدر هؤلاء انهم كانوا لا قدر لهم الا قيادته، هو جواز السفر وهو السقف وهو الأرض. والخوف ان يكون هؤلاء الذين كانوا تحت جناحيه في ذاك الاتساع من حزبيّي الحركة الوطنية ومن الترامي الذي تسببت به حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" تحديداً للثورة الفلسطينية، الخوف ان يكون كل هؤلاء وقعوا في المحذور فتسببوا قصداً ومن دون قصد في سقوط ذاك السقف. وتأتي كلمات لم تنشر لكمال جنبلاط لتسلط الضوء على رؤيته في أكثر من موضوع، ولتكمل بلورة القوة الذاتية لديه وبعض افكاره وتطلعاته. ومن تلك الكلمات: - ما كان للسياسة ان تعقر اطراف جلبابنا، لو لم نكن كلنا شفافية تروح تعكس اماني أولئك البسطاء الطيبين المتطلعين عبرنا لتوفير عيش كريم وحياة مصونة. - اننا من انتماء يقع في اطار المسؤولية الدائمة، لا خيارات فيه للتراجع أو التوقف أو الوقوف في الظل مهما تعاظمت الأحداث وتراكمت السنون. وليس هذا فقط، وانما أيضاً لا خيار لنا سوى هؤلاء الناس الطيبين البسطاء، كنا لهم دائماً وكانوا لنا. أننا سنبقى متسلحين بثقة بالنفس وبانتمائنا التاريخي وموقفنا وبضمير يضع الانسان في العقل والقلب والعين، لا مساومة ولا مهادنة عليه وعلى قيمه وحقوقه. - كيف يعقل ان تظل هذه الحال اللبنانية العربية التي توزع الكفايات على الناس مسبقاً فتخصهم بمناصب دون غيرها، قبل ان تتضح طبيعة تلك الكفايات. ان الحال المارونية هي هذا النوع من الحصر للكفايات برئيس هنا ورئيس هناك وبموظف هنا وهناك. وتكاد أحياناً تترامى في الأرض العربية. - ان الحال المارونية ترسي قاعدة التفرد والتسلط لفئات، حتى وان لم تكن مارونية، لكنها تمنحها الرصيد والقوة فتصبح مثلها. ونحن، ومعنا غالبية من لبنان كله، ضد التسلط والتفرد وليس ضد اخوة موارنة كرماء. - حتى ان ضباطاً تحولوا مخالب لتلك المارونية، وأن لم يكونوا منها، بفعل ما تضمنه من مصالح لهم، على رغم ان رأياً مغايراً قد يكون لرئيس الدولة الذي سبق ان انطلق هؤلاء الضباط في عهده. - الاصلاح في هذا البلد ليس صعباً فهو يكاد يكون في متناول الفكر واليد اذا تمتع ممارسوه بوعي وطني وباخلاص مع الذات ومع الناس. لكن المشكلة في لبنان ان ما زُرع من تشقق في صلب هذا المجتمع وجنباته حوّل فئات منه مغلقة على ذاتها، حيث لم تعد تعرف مصلحتها ولا تفهمها، على رغم طروحاتنا الاصلاحية كلها ما كانت يوماً الا لمصلحتهم جميعاً، واننا في كل ما نفكر نضع الكل في حسابنا. وعلى رغم تلك المشكلة، فإننا مستمرون في مخاطبة جميع الناس من دون استثناء ونعمل لهم كلهم. - ان خطة رجل مسيحي فرنسي كان يمكن لها انتشال هذا البلد من تخلفه، لكن المسيحيين قبل المسلمين ضربوا تلك الخطة. ألم يركز الأب لوبريه على المناطق في خططه الاصلاحية؟ فلماذا يعود المسؤولون للتركيز على المدن؟ - نحن لا نتطلع لمن يتباهى امامنا بالسلاح، فشعبنا هو للسلاح وهو المزهوّ به دائماً. اننا مع سلاح تدعمه وتحكمه في آن الرؤية والبصيرة والمرامي الرفيعة. - ان التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني ينبئنا بقدرته على الانتصار اذا ما توافرت له قيادة قادرة. - وعندما استقبل كمال جنبلاط ياسر عرفات أبو عمار في منزله في بيروت في أول لقاء بينهما قال جنبلاط: في عينيه بريق ذكاء، لكنني ألمح توجهات ذئب أكثر من أسد، وهذا ينفع للسياسة وليس للثورة. لم يقل لنا ما لديه من تصور للعمل في لبنان، وقال: "إن البركة فيكم ونحن نسير في خطاكم". - وفي مناسبة اخرى، وتعليقاً على مواقف فلسطينية من مبادرة روجرز في شأن الصراع العربي الفلسطيني، قال كمال جنبلاط: اذا كان عرفات يعمل للتفاوض يوماً فليفاوض الآن في ظل عبدالناصر لأنه العمق الحقيقي لأي توجه عربي واسلامي، ولا يسوؤه ما لحق به في ما عرف بهزيمة حزيران. - ورداً على هجمة قوى حزبية على جمال عبدالناصر بسبب موقفه من بيان روجرز، قال كمال جنبلاط: عبدالناصر هو تجسيد رسولي لنهوض الذات العربية والاسلامية، وتخوفنا عليه كبير، ويحدونا أمل عارم في ان لا تلفح هامته رياح عاتية من هنا وهناك تبدو في معظمها مشبوهة. - وعن الاسلام والعروبة، يقول كمال جنبلاط: نعجب كيف يتعامى البعض من أصحاب الفكر والمقامات عن فهم أهمية الاسلام في حياة الشعوب والأمم، فإن أبرز ما يبدو حقيقة لا مراء فيها هو ان الاسلام عدالة ومساواة، انها وحّدت مجتمعات وترامت معها دولة ما كان لها ان تكون وتستمر وتبقى قروناً لو لم يكن الاسلام رباطها المقدس... لا خوف على لبنان من العروبة كما يتقولون، ففهمنا لها نابع من بعد رؤيتنا في السياسة وذهابنا في البصيرة أبعد من الحلم أحياناً، أليست الزبد الذي تبقى من فوران القبائلية والضابط لعصبيتها؟ ان العروبة استراتيجية العمق، والقوة في العمق لأي بلد عربي. ونلفت أخواناً لنا لما جسده عبدالناصر من سلامة العروبة وطروحاتها والتي كانت للبنان ضامناً أكثر من أي ضمان آخر. وبعد، ان كمال جنبلاط نراه مشرقاً هذه الأيام، على رغم وجود كثيرين لا يرونه، فهو في: من أين لك هذا؟ القانون الضروري الآن في تطلعات لبنان للإصلاح، وهو في ضرورة التوجه الى المناطق اللبنانية قبل بيروت بالذات في أي تثمير وتطوير، وهو في تصحيح الادارة وتحسين انتاجيتها لا طردها. كمال جنبلاط، في كل ما قاله وفي تراث النظرية والممارسة، يجب ان يبقى مرجعاً معلناً في الفكر والسياسة والقيادة في لبنان لا يستحضر، في المناسبات فقط بل هو حضور دائم يكبر على تطويبه في السجلات الرسمية وبالأوسمة أو تكريمه بالأكاليل. في ذكرى رحيله كم تبدو ضرورة اطلاق جوائز تشجع تعرف الأجيال الجديدة اليه. * كاتب هذا المقال كان مديراً للتحرير في جريدة "المحرر" عام 1968، وكان كمال جنبلاط يكتب مقالاً يومياً في "المحرر"، كل يوم وخلال الليل وبعد انتهاء نشاطه السياسي، وهو الى مأدبة عشائه. وكان كاتب هذا الموضوع يسجل مقالاته تلك. وكان جنبلاط يبدل احياناً جملاً وتعابير وكلمات وأفكاراً، ويرجئ أحياناً بعض الفقرات الكاملة بعد كتابتها معتبراً نشرها، حينذاك، غير مناسب وكما كان يقول "مش وقتها هلق، خليها لمرة ثانية". وتجمّع الكثير من هذه الكلمات والتعابير والأفكار، لدى كاتب هذا الموضوع، ويبدو ان مرور ثلاثين سنة عليها يجيز نشر بعضها.