فتحت استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس الباب مشرعا أمام استقالات قادمة في اسرائيل، ودلت على وجود أزمة داخلية عميقة. ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، يواجه قادة عسكريون وسياسيون إسرائيليون ضغوطاً للاستقالة. وحدث من قبل أن تعرض بعض القادة السياسيين أو العسكريين لضغوط كي يستقيلوا من مناصبهم، بسبب فساد مالي أو تقصير قاموا به في أعمالهم. أما وأن تتعرض قيادات مهمة في المؤسستين السياسية والعسكرية وفي الوقت نفسه، إلى ضغوط لترك مناصبهم، فهذا أمر يعتبر جديداً في الحياة السياسية الإسرائيلية ويدل على أن النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل لم تعد كما كانت عند نشأتها، مما ينعكس سلبا على صورة المؤسستين السياسية والعسكرية لدى الرأي العام الإسرائيلي في الداخل وفي الخارج. ولم تكن استقالة حالوتس، بعد أربعين عاماً من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، هي الوحيدة في الأيام الماضية، فقد جاءت بعد استقالة قائد الفرقة 91 الجنرال غال هيرش، والتي كان الجنديان الأسيران تابعين لها، بسبب إهماله الذي أدى إلى اسر الجنديين على يد"حزب الله"في 12 تموز يوليو الماضي، وذلك بعد أن أصدر ضابط الاحتياط دورون ألموغ، المكلف التحقيق في قضية أسر الجنديين، تقريره الداعي إلى استقالته. وقدم هيرش استقالته فعلاً إلى حالوتس، الذي كان قد عينه قبل أسبوعين فقط من استقالته رئيساً للواء التخطيط الاستراتيجي في القيادة العامة للجيش الإسرائيلي. وحسب تقرير ألموغ، كان من الممكن منع وقوع أسر الجنديين، لو تم استخلاص العبر من عملية الأسر التي وقعت في مزارع شبعا في تشرين الأول اكتوبر عام 2000. وكان هيرش قد تعرض للكثير من الانتقادات خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، بسبب تحميله الفشل الذي لحق بالقوات الإسرائيلية في لبنان، وأدى الى موت 162 إسرائيلياً بينهم 42 مدنياً. وجاءت استقالة هيرش بعد أسابيع من استقالة قائد المنطقة العسكرية الشمالية الجنرال عودي آدم، الذي اتهم أيضا بالمسؤولية عن الخسائر الكبيرة التي لحقت بالجنود الإسرائيليين لعدم استعماله القوات البرية منذ بداية العدوان، والاكتفاء بالسلاح الجوي. ومنذ ذلك الوقت، علت الأصوات مطالبة باستقالة حالوتس، وتحميله فشل الجيش الإسرائيلي في لبنان، واتهامه كذلك ببيع أسهم كان يملكها عشية البدء بالعدوان لاعتقاده بانخفاض أسعارها بسبب الحرب. وربط أحد القادة العسكريين بين بقاء حالوتس في منصبه وبين احتمال حدوث أزمة حقيقية داخل الجيش الإسرائيلي. كما سارت تظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين وجنود الاحتياط، طالبوا فيها بتشكيل لجنة تحقيق في الحرب على لبنان. وانتقد المتظاهرون عدم استعداد الوحدات النظامية والاحتياطيين الذين شاركوا في الحرب، والارتباك والأوامر المضادة التي كانت تصدرها قيادة الجيش الذي لم يحقق أهدافه في لبنان والتي كان في طليعتها تحطيم الآلة العسكرية ل"حزب الله"والإفراج عن الجنديين الإسرائيليين. واستجاب حالوتس أخيراً لتلك الضغوطات وقدم استقالته. وفي الوقت الذي طلب فيه القادة العسكريون من وزير الدفاع إقالة حالوتس، فإن الصحافة الإسرائيلية تطالب من جهتها باستقالة عمير بيرتس وزير الدفاع. ولم ينج بيرتس من النقد الشديد الذي تعرض له حالوتس، فقد واجه هو الآخر حملة تطالبه بالاستقالة، ليس من وزارة الدفاع فقط، بل من رئاسة حزب العمل بحجة عدم وجود خبرة عسكرية لديه، وهو القيادي النقابي السابق في الهستدروت. ووصلت شعبيته في الأيام الأخيرة إلى الحضيض، فقد أظهر استطلاعان للرأي في إسرائيل أن أربعة أخماس الإسرائيليين يطالبون باستقالته من منصبه، بسبب الأخطاء التي ارتكبت خلال العدوان على لبنان، وعدم نجاح الجيش الإسرائيلي في وقف الصواريخ الفلسطينية على سديروت حيث يقيم بيرتس. كما أظهرت الاستطلاعات تقدم حزب الليكود الإسرائيلي بزعامة نتنياهو الذي تتوقع أن يحصل على 29 مقعداً في الكنيست الإسرائيلي مقابل 12 مقعداً حالياً، إذا جرت انتخابات جديدة. أما حزب"كديما"الذي يترأسه أيهود أولمرت فمن المتوقع أن يحصل على 18 مقعداً بدلاً من 29 حالياً. بل توقعت استطلاع للرأي أجري بعد استقالة حالوتس، زوال"كديما"بسبب افتقاره لعنصر القيادة المفروض توفرها في زعيم أي حزب سياسي. وأشار الاستطلاع الى أن غالبية الإسرائيليين تعتقد أنه يجب على بيرتس وأولمرت أن يقدما استقالتيهما. وقال 85 في المئة منهم أنه يجب على بيريتس أن يستقيل، مقابل 13 في المئة فقط يعتقدون العكس. ورداً على السؤال عما إذا كان يجب على رئيس الحكومة أولمرت أن يستقيل؟ أجاب 69 في المئة بالإيجاب، مقابل 26 في المئة أجابوا بالنفي. وكانت صحيفة"هآرتس"عنونت افتتاحيتها قبل أيام بعنوان رئيسي"نبحث عن وزير للدفاع"ودعت بيرتس إلى تقديم استقالته أو استبدال الحقيبة الوزارية التي يشغلها بحقيبة أخرى قد تعرض عليه وهي وزارة المال. ولكن بيرتس، الذي ما زال متمسكاً بمنصبه، أعلن أنه سيستقيل في حالة واحدة إذا استقالت الحكومة الإسرائيلية بالكامل بمن فيها رئيسها أولمرت. وهذا يعني أن مسلسل الاستقالات يمكن أن يطال رئيس الحكومة الإسرائيلية، ولن يتوقف عند القادة العسكريين فقط، آخذين بالاعتبار المطالبة باستقالة موشيه كاتساف، رئيس الدولة نفسه بسبب اتهامه بالتحرش الجنسي مع احدى الموظفات في مكتبه، وهذا يعني وجود أزمة حقيقية تعيشها إسرائيل، مع تزايد نسبة المنتقدين للنخب العسكرية والسياسية فيها وعدم ثقة الإسرائيليين بقادتهم. وليس من باب الصدفة أن يستقيل حالوتس في اليوم نفسه الذي يأمر فيه المدعي العام الإسرائيلي بفتح تحقيق مع رئيس الحكومة أولمرت بسبب اتهامه في فضيحة مالية مرتبطة بخصخصة بنك"لومي"ثاني أكبر بنك إسرائيلي. وليست الضغوط على كل من أولمرت وبيرتس الوحيدة في إسرائيل، ومن المرجح أن تتسع كي تشمل نخباً سياسية وعسكرية أخرى في الأيام القادمة. واستعرضت صحيفة"هآرتس"التحقيقات التي تجريها الشرطة والمؤسسة القضائية مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، مشيرة إلى أن رئيس الدولة موشيه كاتساف يخضع لتحقيقات بشأن تحرشات جنسية مع 10 نساء في مكتبه وقبل أن يصبح رئيساً. ويتهم نائب رئيس الوزراء شيمون بيريس بجمع تبرعات لحملته الانتخابية بشكل غير مشروع. كما فرضت الشرطة الإسرائيلية على شولا زاكن، مديرة مكتب اولمرت في مطلع العام الحالي، الإقامة الجبرية بعدما اشتبهت بأنها استغلت علاقاتها لتعيين موظفين كبار في مصلحة الضرائب. وسعت زاكن إلى ذلك من اجل الحصول على خفض في الضرائب خصوصا لمصلحة شقيقها يورام كارشي رجل الأعمال وعضو اللجنة المركزية لحزب الليكود. ويلاحق رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع تساحي هانغبي القريب من اولمرت بتهم الفساد والاحتيال واستغلال الثقة، وتعيينات سياسية تعسفية حين كان وزيرا للبيئة في الفترة ما بين 1999 و2003. وكذلك الأمر مع حاييم رامون وزير العدل الإسرائيلي السابق والقريب من رئيس الحكومة، الذي استقال من منصبه بسبب اتهامه"بتقبيل موظفة في الحكومة عنوة". ويجري تحقيق جنائي مع المتطرف الإسرائيلي افيغدور ليبرمان وزعيم حزب"إسرائيل بيتنا"والعضو في حكومة أولمرت، حول علاقات تجارية غير قانونية في روسيا في تسعينات القرن الماضي عندما كان وزيراً للمال في حكومة نتنياهو. وهناك تحقيق آخر ضد وزير المال الحالي ابراهام هيرشزون من حزب"كديما"، حول ما إذا كان على علم بعمليات خداع جرت في جمعية عندما كان رئيساً لنقابة عمالية. ويحاكم عضو"الكنيست"عن حركة"شاس"اليهودية الأصولية شلومو نبيزاري بتهمة الحصول على رشوة من مقاول عندما كان نائباً لوزير العمل والرفاه الاجتماعي ونائباً لوزير الصحة. وتجري الشرطة الإسرائيلية تحقيقا مع عضو الكنيست عن"كديما"روحمه ابراهام بسبب رحلات مجانية قدمت لها من مؤسسة التسويق الزراعي في العام 2003 . استقالة حالوتس، الذي يعتبر ارفع مسؤول عسكري وسياسي إسرائيلي يقدم استقالته منذ العدوان على لبنان، استجابة للضغوط التي مورست عليه، ستكون لها انعكاسات سلبية كبيرة في إسرائيل، لأنها فجرت الخلافات والتناقضات الموجودة أصلا داخل المؤسسة العسكرية، مما دفع شيمون بيريس نائب رئيس الوزراء إلى الاعتراف بأن إسرائيل تعيش أزمة لم تواجه مثلها سوى بعد حرب تشرين أكتوبر 1973، وهذا يدل على ضعف الكيان الإسرائيلي من الداخل. ومن المهم معرفة كيفية الاستفادة من تلك الخلافات والتناقضات وتوظيفها لصالح القضية الفلسطينية. * اكاديمي وكاتب اردني