على عكس ما اشيع، لم يقدم الرئيس الأميركي جورج بوش استراتيجية جديدة للعراق، إنما خطة تعيد النظر في التكتيك الذي اعتمدته القوات الأميركية، الذي بدأ بتنفيذه منذ فترة، وجرى الإعلان عنه اليوم، وذلك بهدف مواصلة ذات السياسات الاستعمارية، الموغلة في استخدام القوة والعنف، الى جانب اللجوء الى إثارة النعرات والفتن بهدف تحقيق الأهداف التي عجزت عن بلوغها القوات الأميركية طوال السنوات الماضية من عمر الاحتلال. وعلى رغم أن بوش اعترف بالفشل، إلا أنه في الوقت ذاته تهرب من المسؤولية، وقرر مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام، والحفر عميقاً في الحفرة التي وقع فيها، بدلاً من العمل على التوقف والبحث عن سبل الخروج منها، حسب تعبير أحد الكتّاب الأميركيين البارزين. فمن خلال قراءتنا الخطة الجديدة للإدارة الأميركية بقيادة المحافظين الجدد، التي تجاهلت تماماً توصيات لجنة بيكر - هاملتون، نستطيع استخلاص جملة من الأمور الأساسية: الأمر الأول، أقر جورج بوش وفريقه من المحافظين الجدد بالفشل في العراق، لكنه رفض رفع راية الاستسلام، وأعلن عزمه مواصلة طريقه في الحرب على ما سماه"الإرهاب"، من أجل تحقيق"الديموقراطية الناشئة ضد المتشددين"، التي يدرك الجميع في العالم أنها لم تؤد إلا إلى الفوضى والاضطراب، وضرب كل أسس الاستقرار الذي تبنى عليه الديموقراطية. الأمر الثاني، ان إدارة بوش غيّرت في التكتيك الذي اتبعته منذ بداية احتلال العراق، لناحية طريقة استخدام القوة والتعامل مع المقاومة وسبل محاصرتها والنيل منها، وهذا التكتيك يستند، كما يتضح، إلى العناصر التالية: 1- ارسال قوات إضافية 21500 جندي إلى العراق من أجل مساندة القوات الموجودة، ليبلغ عديد الجيش الأميركي ما يفوق ال150 ألف جندي، لكن هذا التعزيز للقوات لا يستهدف انخراطها في معارك في قلب المدن والشوارع العراقية، بل تشكيل قوة اسناد لحكومة المالكي وقواتها الأمنية والعسكرية، التي ستتولى بموجب الخطة الأميركية عملية مواجهة قوى المقاومة والتيارات السياسية الرافضة للاحتلال ومشاريعه، بحيث تصبح القوات الأميركية أقل انخراطاً في المواجهة، وبالتالي تتجنب التعرض لعمليات المقاومة وما تسببه من استنزاف لها. 2- تعزيز القوات الأميركية في مياه الخليج عبر ارسال الاسطول السادس وفوج من الطائرات الحربية وصواريخ باتريوت، وذلك بهدف تولي عمليات الاسناد الجوي لقوات الحكومة العراقية من جهة، وتوجيه ضربات مباشرة لقوى المقاومة ومجموعاتها إن كان في الأراضي العراقية أو أراضي الدول المجاورة إيران وسورية من جهة ثانية، وهذا الأسلوب هو الذي اعتمدته في كوسوفو وتعتمده الآن في الصومال بعد فشل تدخلها العسكري هناك. وقد كشف مسؤول عسكري أميركي كبير هذا الدور لفوج الدفاع الجوي حين قال:"إن فوج الدفاع الجوي لن ينشر فقط بهدف اظهار قوتنا، ولكن سيكون ضالعاً بشكل نشط في معارك، وسيقدم دعماً جوياً سيكون أداة سلسلة تستفيد منه المنطقة برمتها". 3- استنفار الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، من أجل دعم حكومة المالكي والمساعدة في محاصرة المقاومة العراقية والقضاء عليها بهدف تكريس نظام عراقي موالٍ لواشنطن، خصوصاً بعد أن اصبح بوش محاصراً من الكونغرس الأميركي وغير قادر على اقناعه برصد الأموال اللازمة لمواصلة حربه في العراق. 4- مهدت إدارة بوش الى ذلك عبر خلق تعبئة مكثفة توحي بأن الخطر، في العراق وعلى المنطقة، يأتي من إيران، وبالتالي وضع العرب مجدداً في مواجهة إيران ومحاولة خلق فتنة مذهبية بين السنّة والشيعة، بما يبعد الأنظار عن الاحتلال الأميركي ويحرف الصراع عن مساره الحقيقي، فتتحقق بذلك أمنية بوش في الخروج من الورطة العراقية بضرب العرب بإيران، والعراقي بالعراقي، ويقوم هو بدور تغذية الصراع بكل السبل إلى أن يتم انهاك الجميع ويستتب الأمر في نهاية المطاف في مصلحة الاحتلال الأميركي ومخططاته الاستعمارية. 5- في هذا الإطار جرى ايكال مهمة قمع المقاومة العراقية والقوى والتيارات الرافضة للاحتلال، مثل التيار الصدري، إلى قوات الأمن والجيش العراقي والميليشيات الموالية لواشنطن البيشمركة الكردية ولواء بدر التابع للمجلس الأعلى وتحميل حكومة المالكي المسؤولية عن أي فشل في تحقيق هذا الهدف الأميركي، وفي هذا السياق جرى أخيراً حديث أميركي عن خطر التيار الصدري وضرورة توجيه ضربة له، عبر دفع القوات الحكومية العراقية الى اقتحام مدينة الصدر في بغداد، فيما يتولى الطيران الأميركي مهمة الاسناد الجوي بتوجيه ضربات لقيادات ومواقع التيار، كما فعل أخيراً في قصف مواقع للمقاومة في شارع حيفا بقلب بغداد. لكن السؤال الذي يطرح في ضوء ما تقدم هو: هل أن خطة الإدارة الأميركية تتوفر لها فرص النجاح، أم ستفشل كما فشلت سابقاتها؟ من الواضح لأي مراقب ان خطة بوش تأتي في ظل ظروف ومعطيات لا تعمل لصالحها، ان كان على الصعيد الاميركي الداخلي، أو على المستوى الدولي، أو على صعيد الوضع القائم في العراق والمنطقة. - فعلى المستوى الأميركي: المناخ هو عكس ما كان سائداً عشية غزو العراق. الكونغرس، والنخب السياسية، ومراكز الدراسات، والرأي العام لا يؤيدون الخطة البوشية، وهم يرفضون ارسال المزيد من القوات الى العراق، ويعتبرون ان لا جدوى من ذلك لأنه سيؤدي الى مزيد من التورط وبالتالي ارتفاع أعداد القتلى في صفوف الجنود الاميركيين، ولذلك هم يطالبون بالتخلي عن مواصلة خيار القوة والعمل على اعتماد خيار الديبلوماسية وسيلة للخروج من المأزق والمحافظة على المصالح الاميركية في المنطقة. وفي هذا الإطار، يرى مستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجنسكي ان"التعهد بإرسال المزيد من الجنود الى العراق غير كاف لكسب الحرب، وسيورط الجيش الاميركي في حرب شوارع دموية، وان خطاب بوش تجاوزه الزمن كونه أظهر ان أميركا تعمل كقوة استعمارية في العراق في حين ان عصر الاستعمار قد انتهى". اما الكونغرس، الذي يسيطر عليه الديموقراطيون بمجلسيه، فلن يسهل لبوش تنفيذ خطته، حيث سيرفض تخصيص أموال اضافية، ولن يوافق على مزيد من التورط، في وقت يدعم فيه التوصيات التي توصلت اليها لجنة بيكر - هاملتون التي تدعو الى اعتماد الخيار الديبلوماسي بعد فشل خيار القوة. والأمر ذاته ينسحب على الرأي العام الاميركي حيث تجمع استطلاعات الرأي على ان ثلثي الاميركيين لا يؤيدون الاستمرار في سياسة الحرب، ويريدون انسحاب القوات الأميركية من العراق. ان هذا المناخ الأميركي يعني ان جورج بوش يقدم على خطوة تفتقد الى الغطاء الاميركي التشريعي والسياسي والشعبي الضروري لتنفيذ الخطة. - على المستوى الدولي: الواقع الدولي بات مختلفاً، فمجلس الأمن، الذي تجاهله بوش عشية غزو العراق لأنه لم يمحضه الموافقة، بات اليوم أكثر معارضة للسياسات الأميركية التفردية، لا بل ان دولاً مثل روسيا والصين أصبحت أكثر جرأة وتحدياً للتوجهات الأميركية الأحادية الجانب، فيما حلفاء واشنطن الغربيون أصبحوا أكثر حذراً تجاه الاستمرار في سياسة الحرب، وهم باتوا يميلون الى الحلول السياسية، في وقت ان بعض من ساندوا الحرب الأميركية دفعوا الثمن وهزموا في الانتخابات أثنار في اسبانيا، وبيرلوسكوني في ايطاليا والدور آت على البقية منهم كما تظهر استطلاعات الرأي. - على صعيد المنطقة العربية: تبدو الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة في وضع لا تحسد عليه، فهي رأت بأم العين نتائج الحرب الاميركية في العراق والى ما أدت اليه من فوضى واضطراب وتهديد بتقسيم البلاد ومخاطر امتداد ذلك الى كل دول المنطقة، فيما ازداد منسوب العداء للسياسة الأميركية على المستوى الشعبي وبلغ مستويات لم يبلغها من قبل، ولذلك ليس من السهل عليها الموافقة على خطة بوش التي تهدف إلى إثارة الفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية، غير ان بعض الدول لمحت الى موافقتها على خطة بوش من خلال التحذير من التدخل الاقليمي في شؤون العراق، في اشارة غير مباشرة الى ايران وسورية، وغض النظر عن خطر الاحتلال الأميركي. والخطورة في هذا الموقف ان يتعدى حدود التصريح والتلميح الى الانخراط في عملية تعبئة وتحريض ممنهجة ضد ايران، خدمة للهدف الأميركي بتحويل الصراع الى صراع عربي - ايراني، بات قارب النجاة الذي يتوسله صقور البيت الابيض. - على الصعيد العراقي: يمكن القول ان الخطة الأمنية التي تضمنتها خطة بوش ستواجه مقاومة متصاعدة باتت متمرسة وتحظى بتأييد شعبي كبير وتملك قدرات وإمكانات على خوض حرب عصابات وحرب شوارع، وهي احبطت كل الخطط الأمنية للقوات الأميركية، وأوقعت في صفوفها خسائر فادحة تجاوزت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى منذ بداية الاحتلال وحتى اليوم، وإذا كانت الخطة تستهدف الاستعانة بقوات الأمن والجيش العراقيين والبيشمركة ولواء بدر، فإن ذلك لا يضيف جديداً، من زاوية حجم القدرات العسكرية، بقدر ما يشير الى عجز القوة الاميركية من جهة، ويؤكد ان ما فشلت في تحقيقه القوة الأميركية المتطورة، لن تستطيع بلوغه بالواسطة عبر قوة أقل تمرساً وقدرات وإمكانات، ثم ان هذه القوات الحكومية العراقية جرى اختبارها في السنة الماضية، وهي تلقت دعماً عسكرياً أميركياً واسناداً بالطيران، ومع ذلك فإن المقاومة لم تتراجع بل ازدادت، ولذلك كان لافتاً تصريح قائد القوات الأميركية الجنرال كايسي، بأنه"ليس هناك ضمانات لنجاح الخطة الأمنية الجديدة، وأن الرهان على جدية حكومة المالكي وفشل الخطة سيؤديان الى انهيار الحكومة العراقية". ولذلك، ركز السفير الأميركي زلماي خليل زاد على أهمية تعزيز الجهود الاقليمية لإحلال الاستقرار ووضع حد للمقاومة، معتبراً الخطة"لحظة حاسمة"وهي كذلك بالنسبة لسياسة المحافظين الجدد الذين على ما يظهر لم يعد لديهم من وسائل سوى محاولة الاستعانة بالحلفاء، وإثارة الفتنة المذهبية لتحقيق ما عجزت عنه القوة الأميركية، فهم يدركون كما تشير تصريحاتهم، بأنهم يجربون آخر محاولاتهم قبل ان يسلموا بفشل مشروعهم بالكامل، لأن الزمن لم يعد يسعف بوش وفريقه الصقوري، وكذلك الواقع الداخلي الأميركي الذي يزداد حساسية من سياسات ثبت عقمها ولا تنتج سوى المزيد من القتلى الأميركيين في العراق والكراهية لأميركا، من دون طائل. * كاتب فلسطيني