كان رواد مدرسة فرانكفورت النقدية أول من دعا الى نقد العقل ومحاولة إنقاذه من براثن الهيمنة التي فرضتها الفلسفة الوضعية والامبيريقية التي أفسدت العقل الغربي وحولته الى عقل أداتي. انطلقوا من ان النظرية النقدية وضعت العقلانية على محك التساؤل والشك. وما كوارث القرن العشرين من الحروب العالمية والأهلية والاستعمار والكوارث البيئية الا من نتائج تلك الهيمنة اللاعقلانية على العالم. في نقده لعصر التنوير في الشكل الذي اتخذه في الفلسفة وعلم الاجتماع رأى ماكس هوركهايمر 1895-1973 ان النزعة العقلانية لعصر التنوير تضمنت في الأساس تصوراً للطبيعة كموضوع للسيطرة عليها والتحكم فيها واستغلالها، وهذا التصور كان أدى بالضرورة الى نظرة متماثلة للإنسان ذاته حيث اصبح الإنسان، في علاقاته الاجتماعية المتبادلة، كموضوع للسيطرة. والنتيجة التي توصل اليها هوركهايمر هي نظرة تشاؤمية تمثلت في معظم أشكال التفكير الفلسفي والاجتماعي الواسعة الانتشار في الفكر الغربي والحضارة الحديثة، التي ما زالت تدعم السيطرة الكلية على المجتمع، وان قلة قليلة من ممثلي الفكر النقدي بقيت تناضل ضدها. حتى النظرية الماركسية، التي أكدت بصفة خاصة على العمل البشري كأسلوب لتحقيق الذات وكذلك على أهمية نمو العلم والصناعة الحديثة، فإنها تنتمي الى فكر عصر التنوير نفسه، اذ يمكن التأكيد على النظرة النقدية للعلم والصناعة بدلاً من فكرة السيطرة على الطبيعة وتوسيعها الى الممارسة الاجتماعية، وبدل السيطرة على البشر، باعتبارها الدعوة الأساسية لعصر التنوير في الفكر الفلسفي والسوسيولوجي. ان الأمل في التغيير الذي طالما انتظره هوركهايمر واستسلام الحركة الثورية، اذ اخذا يتعادلان، دفعا هوركهايمر الى إصدار كتابه"أفول العقل"عام 1947. رأى فيه ان هذه المرحلة المقررة تشير الى ان النواة الجدلية في" النظرية النقدية"هي ليست في إحلال الفكرة بدل الممارسة ولا تحقيق ممارسة مثالية في الفلسفة، وانما اتخاذ موقف راديكالي من النظرية نفسها، التي ينبغي ان تتخذ موقفاً راديكالياً ونقدياً سالباً"لتعرية ما يسمى بالعقل"، لأن نقد المجتمع هو في الوقت ذاته، نقداً ذاتياً للفلسفة. ارتبطت النظرية النقدية بمدرسة فرانكفورت ومعهد البحث الاجتماعي باسم ماكس هوركهايمر الذي أسسه في جامعة فرانكفورت. والنظرية النقدية هي قبل كل شيء نظرية نقدية للمجتمع التي تركز على الجانب الاجتماعي العملي في السلوك وتسعى جاهدة الى البحث عن الطاقات الكامنة في الحرية والعدالة والسعادة حين تمارس تحت ظروف وشروط تاريخية محددة وتهدف الى نظام اجتماعي أفضل يحقق تلك الطاقات والظروف. وكنظرية اجتماعية معيارية تحاول النظرية النقدية فهم وتشخيص أسباب الأوضاع البائسة في الواقع الاجتماعي. وينطبق هذا الهدف مع مقولات الرواد الأوائل لها، وعلى رأسهم هوركهايمر وتيودور أدورنو مثلما ينطبق ذلك على آراء زملائهم وتلامذتهم المعاصرين، وعلى رأسهم يورغن هبرماس. يشير هوركهايمر الى ان النظرية النقدية هي في المقام الأول ليست نظرية للمعرفة ولا نظرية للحقيقة، مع انها جزء من المحاولات المستمرة التي تهدف للوصول اليها، انطلاقاً من اهتماماتها بالجانب الفلسفي للعلاقات الاجتماعية، فهي لذلك محاولة جادة لإيجاد بديل نظري - نقدي واضح المعالم للوقوف أمام التيارات الفكرية والفلسفية التقليدية التي مارست نوعاً من السلطة التي هدفت الى تقويض طوعي في تاريخ الفلسفة، الذي اجبر النظرية على التراجع، وقامت على أساس منهجي قويم هو الربط الجدلي بين النظرية والممارسة. كما أكد هوركهايمر، ان جدلية النظرية والممارسة يجب أن تكون داخلية، حتى لو تنكرت النظرية لكل فهم ذاتي وفي لحظة تشكيل المصلحة، لكن على النظرية النقدية أيضاً ان تستغني، في الوقت ذاته، عن المماثلة والأحكام القاطعة التي تثير المصالح أو ترتبط بها، كما عليها ان تستغني عن كل وساطة، لأن قيمة أي نظرية نقدية للمجتمع لا تتقرر بالفصل الشكلي للحقيقة وإنما بالشروع في لحظة تاريخية معينة بالقيام بواجبها تجاه القوى الاجتماعية، وان اتخاذ مثل هذا الموقف انما يهدف أساساً الى توجيه المعرفة الذاتية نحو المجتمع ونحو مصلحة عقلانية إيجابية، وهو ما مكنها من ان تكون فلسفة اجتماعية هدفها نقد المجتمع وتعريته من خلال نقد النظام القائم والكشف عن جوانب الخلل فيه ورفضه اذا كان سلبياً. ان معالجة هوركهايمر للنظرية النقدية هو تشخيص"مرض العقل"بروح راديكالية روسو الشاب، الذي اعتبر ان كسوف العقل يعود الى مكر الإنسان الأول الذي، اعتبر العالم غنيمة خاصة به وحده، وبذلك يصبح الإنسان من خلال ذلك، مجرد موضوع للسيطرة. وهكذا يخفق العقل ويتحول الى مجرد آلة للسيطرة. هذا ما يبرهن عليه تاريخ العقل. ولكن من الممكن أيضاً ان يبقى العقل أميناً لنفسه حين يلتزم بمبدأ الحقيقة ولا يحول السيطرة على الطبيعة الى سيطرة على الإنسان. وطالما لا يفهم الإنسان عقله الخاص فإنه يدمره. ان تدهور العقل الموضوعي وتحوله الى عقل أداتي حدث بعد صعود عالم الصناعة التايلرية والستالينية والنازية وتشكل عالم القوة والجبروت الذي يسعى الى تحقيق المصالح المالية، التي تعمل على تدمير العقل، لأن المصالح المادية هي عدوة العقل، كصورة جوهرية للوجود. لقد حلت الايديولوجيات المسخرة لخدمة الربح مكان الافكار واستبدلت الخصوصيات بكونية عصر التنوير، وانقطعت بذلك الصلة التي تربط بين الفرد والمجتمع، التي كان يكفلها العقل لها. هذه القطيعة التي بدأت مع الازمة الحديثة اخذت تشمل كل شيء، ولم يعد الانسان الحديث يتطابق مع القواعد الكونية للعقلنة وتحول دور العقل الاساس الى ايجاد وسائل في خدمة الغابات التي يتبناها كل فرد في لحظة معينة، وهوعكس ما يعتبره فيبر"احتفاء"بانتصار العقلانية الوظيفية"على العقلانية الجوهرية، وهو ما يعني قبول العقلانية الموضوعية وانتصار العقلانية الأداتية . وكتعبير عن احتجاج شرعي ضد تصلب العقلانية المطلقة وضد ما يسير معها من معايير، التي تطبع الحياة في المجتمع الرأسمالي المتطور، طور هوركهايمر"فلسفة الحياة"التي هي في الواقع صرخة ضد هذا الواقع البائس، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط رئيسة تشكل في الحقيقة أسس النظرية النقدية عنده. فهي اولاً محاولة لإنقاذ الفرد من مخاطر المجتمع الصناعي الحديث، وثانياً ان الغالبية من الفلاسفة اتجهوا الى الزهد في الحياة وأهملوا البعد المادي للواقع، وثالثاً وهي النقطة الأهم، هو ان نقد فلاسفة الحياة للعقلانية المطلقة حوَّلها الى شكل من أشكال العقلانية الشكلية التي أظهرتهم وكأنهم يرفضون العقلانية رفضاً قاطعاً، وهو ما أدى الى ان تكون لا عقلانية وفارغة. كما يشير هوركهايمر، أن العقل لا يستطيع تجسيد نفسه الا حين يقوم بإلغاء المطلق المزيف، الذي هو مصدر كل هيمنة عمياء . وبمعنى آخر، فالعقلانية التي طالب بها عصر التنوير يجب ان تكون إنسانية أولاً وأخيراً، وهذه هي إحدى أهم سمات وأهداف عصر التنوير الكبرى وكذلك مدرسة فرانكفورت النقدية، التي جسدت التقدم والتحرر الحقيقي وليس المزيف.