إن الشعر في بحثه عن معناه يكتشف أن هذا الأخير قد أصبح رفيق الدرب الأفقر والأبعد، فنحن نعيش في أفق ثقبته لجة من الآمال الخائبة ولم يعد الشعراء يكترثون كثيراً في عصر الحداثة للمعنى، لأن هذا الزمان الذي نعيشه تطغى عليه واقعية مستسلمة وملل من عالم عصي على كل سيادة للحلم، فيمضي الى أقصى درجات الشكوكية الراديكالية، وعندها تتحول الحداثة الى نوع من نهاية كل الأوهام، أي هذا الرفض لكل الأحلام الكبرى، الواهبة العظمى للمعنى، وللتوهمات حول المستقبل التي لم تثمر في معظم الأحيان، على الأقل حتى يومنا هذا، سوى الرعب السريالي في واقعيته، وحده الصمت وقد لجأ الى عمق وحدته، ينجو من تقحل تفاهة أيديولوجيا حبلى بكوابيس جديدة! إن كل حركة تهدف لكسر الواقع، وتستمر في رفض التطابق مع الحلم المنقذ لعالم أفضل يمكن لتقدم الإنسان ولسيرته الروحية أن يبلغه، تنتهي بإلغاء الموضوع، وبحركة معاكسة تكون هناك حركة انطواء على الذات، تؤدي الى حركة انتحار مشترك، أي الى موت الذات والموضوع. ان المرآة، وهي بابنا نحو العالم الخارجي تحطمها هنا الذات خوفاً من أن ترى فيها الهاوية السحيقة للإرهاب اللامتناهي الذي تعكسه هذه المرآة العجيبة، وفي الوقت عينه تفقد معالم طريقها، وانهيار الحلم اللامتناهي المحرر والواهب المعنى، تحت أنقاض العجيب العبثي اليومي، يقود الى هذا الرفض الغريب لأي إرادة للتعبير عن أي معنى، فيجد الشعر نوعاً من العظمة أن يكون خطاباً يلقى من قمة الصمت، حيث يسكن الشاعر لغة قادرة وحدها أن تجمع له أحلامه المبعثرة، ويعثر عندها، في وحدة لغته الخاصة به، على جزيرته الصغيرة لسلامه الضائع. يصبح الشعر هنا، بعد تحطيم العالم الخارجي الموضوعي وإسكات الخيال واهب الحلم المتجدد في الذات الفاعلة، هذا الخطاب العاجز الذي يتغنى باستحالة التعبير عن كل هذا الذي يخرج عن كل نطاق تطوله اللغة، ويفشل في الولوج في اللامتناهي لسراديب الأهواء والانفعالات، وعدم القدرة في التجوال داخل الدروب التي لا تنتهي للخيال الجامح للفنان، لئلا يكتشف الصمت الشاسع لغير المبرر، حيث تتحول السلطة اللامتناهية للحرية خوفاً مريضاً ليس فيه كلمة أو أي إمكانية كلمة! هنا يصبح عصرنا، وهو عصر التواصل بامتياز، عصر عدم التفاهم الشامل والمطلق، حيث لا يتكلم كل واحد لغته الخاصة به، بل ينطق باللغة الوحيدة للكلمة، وقد اختزلت الى صمت الأسى والخراب حيث الغير هو ذلك المجهول، ذاك الغريب وقد حمل وجهاً لم يكتب عليه سوى هذا التهديد المحتمل والمباشر لوجودي، والسر اللامتناهي الذي يحمله كل منا مع نظرته يصبح عنفاً مفتوحاً على لا متناهي العدم. هنا يلتقي الشعر فجأة اللامتناهي الوحيد الذي لم يكن حاضراً في موعد نقطة انطلاقه، حين كان يضم لا متناهيات اللغة والحرية والخيال والعاطفة. إنه اللامتناهي الذي يشمل كل اللامتناهيات ويضمها الى حجره لكي يختزلها الى تناهي العدم وقد أصبح وجه العنف الحقيقي والوشيك المتربص للانقضاض، حين تحين المناسبة. كل معنى يبدو وقد ابتلعه اللامعنى الشامل والنهائي للتوحد الأخير والعزلة التامة التي لا خلاص منها ولا مفر من مواجهتها، وهي النفي الناجز والمطلق للوجود والحياة. وفي ذروة اليأس الذي يسد كل المنافذ ويخنق كل صوت قبل أن يحاول الانبثاق، تتدفق كل قوى اللامتناهيات التي تغذي الشعر. تشرق اللغة من فجر جديد، كما مع الكلمة الأولى التي أعلنت فجر الإنسانية وتحيل الحرية الخوف الى تحد يقف بإصرار لا يخشى الهاوية المشرعة على المجهول، أما الخيال فيأتي بضوء سحري خارق لكل عتمة تريد أن تمحو الوجود بوجودها، أما الانفعال فيغوص الى قعره الذي لا قعر له، فإذا به تدفق عاطفي يقلب الخوف من الموت الى حب لا يقهر للحياة! تسكن كل هذه اللامتناهيات الشعر فتحيله الى أرض خصبة تتجدد باستمرار من قلب العدم، وتمده بهذه الطاقة الغريبة التي تجعله يواجه بشجاعة الوحش اللامتناهي للمصير العاتي حين يستمد من ذاته التحدي الأكبر لمهمته التي ما خلق إلا ليقوم بها في رحلة اجتازت الأقطار، وقهرت الأزمنة، من دون أن يشيب الشعر أو يهرم، بل كلما امتد به الزمن، ازداد رونق شبابه! بخشوع، ولكن من دون وجل، يلج الشعر، السر اللامتناهي للموت، ملقياً الضوء على الكثير من عتمته الشاملة، وهنا تجري مبارزة بين العمالقة. وفي كل مرة يسجل الشعر النقاط، ويخفف من حدة الخوف، فيكشف الشعر ملء معناه، معناه الأخير في هذا النصر المتدرج على الموت، والعدم الضام للكل، السائد الدائم يصبح مضموماً، ويتغير الشعر نهائياً حين يتمثل خصمه ويتماهى في حين يضيء هوته المخيفة التي لا تنتهي ولا تشبع مهما ابتلعت، الشعر يتبدل، إشراقة جديدة تلقي عليه كل الضوء فإذا به الترياق، الدواء القاتل لأعتى العلل، العلاج الشافي لأعتى الخوف، وبدل أن يصرعه الموت، يصبح هو الدواء السحري الذي يسمح بتخطي الموت. الشعر هو اللاموت، المضاد للموت، لذلك فهو خالد، أي أنه النفي عينه للموت. ويصبح الشعر انتصارنا على الموت، وفيه لا نجد من جديد فردوساً فقدناه أو نستعيد براءة بدائية أصلية، ولكننا نحاول أن نصنع عالماً أفضل، ونحن نعيش عالم التمزق والعنف والخوف. كل قصيدة هي ومضة من نور في عالم نعرف أن مسيرته في الظلام لا يزال أمامها مسافة طويلة تقطعها، وان التاريخ لا يتقدم بخط مستقيم نحو عالم مثالي سيجد نفسه وقد أدركه، ولا هو يدور في حلقة مفرغة ليعيد ذاته مرات عدة، بل انه مع كل انتصار للحقيقة وتقدم لمسيرة انجازاته يصادف مشكلات جديدة، وتبرز أمامه عقبات لم تكن في حسابه، وكأن التاريخ يرفض أن يخضع لحسابات مسبقة، ولا يسره سوى تقديم المفاجآت السارة منها ولكن كذلك تلك التي لا تخضع إلا لعمق أهواء الإنسان، التي يطيب لها أحياناً كثيرة أن تقيم التحالف مع الموت، وكأن للعدم قوة جاذبية تفتن وتستهوي ويعرف هذا العدم كيف يخفي فراغ حقيقته فلا يكتشف المفتون به كل قوته التدميرية إلا بعد فوات الأوان، فيدرك الحكمة فوق كومة من أنقاض الأحقاد المتراكمة التي تجمعت فكانت دماراً. في واقع هذا العالم الذي ما زال يعيش مسيرة آلامه، ويستعجل جلب الموت الى حقله أحياناً كثيرة، يتجلى الشعر في كل قوته، أي بكل معناه المتجدد المنتصر دوماً على فكرة الفناء الناهض من بين حطام الصراعات وقد أخذ يبني فردوساً هو من صنع يدي الإنسان، ليقيم واقعاً آخر هو الأصح والأبقى، واقع الفردوس المشاد من أنوار الانتصار المستمر والدائم على هوة العدم والافتتان بها. انه واقع هذا الفردوس الذي تشيده أيدي البشر ليكون منزلاً للإنسان على مستوى الإنسان. الشعر في استهدافه الأخير هو هذا الفردوس الصغير المنتصر على الموت، الباني لخلود مشيد بالتدريج، وكل درجة من درجاته نسجها العذاب، وصاغتها الآلام المكتوبة في جسدنا عينه، غير انها قد تحولت الى نقاط نور، فتجلت بها، داخل عمق العنف وقد تجسد ظلماً وظلمة شاملة. في أحلك غياهب العدم ينبثق الشعر نوراً بلا وزن، يخترق رهابة الصمت برهافته ويطفو فوق كل المآسي بسمة تعلن أنها الأقوى وأن الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للكلمة، الكلمة المتسربلة جمالاً كساها به الشعر، ونسجه لها من شتى ألوان السلام! ومن عذابات الماضي وأشواق الحاضر وتطلعات المستقبل، وقبل كل شيء من حلم الأبدية! من فوق قهر الوت! من حب البقاء فوق هذه الكرة الأرضية الفاتنة في كل تقلباتها! يملك الشعر إذاً هذه القدرة ليخوض معركته الأخيرة ضد هذا اللامتناهي الأخير الذي يريد أن ينزع منه كل اللامتناهيات التي كان قد أفرد لها منزله الأوسع، وجعل منها ضيفه الدائم ويملك الشعر المقدرة على الخروج دوماً من هذه المعركة منتصراً ومحققاً معناه الأبعد الذي ليس وراءه معنى آخر يطمح الى انجازه. الشعر هنا يلامس حدود المطلق، فيصبح الشعر الطلق هذا الفوز المطلق على الفناء المطلق، على العدم المساوي لنفي الوجود، والتنكر للحياة. الشعر المطلق هو انتصار اللامتناهي على الموقت والعابر والسطحي، حيث تنفجر اللحظة، فإذا هي قطعة من أبدية، وتكتسي كل لحظة نشوة الخلود، حيث يأتي الفردوس، ويصبح قائماً حالياً، جزءاً من واقع الآن، من ملء المعنى وتمامه، الغلبة الكاملة والدائمة على النسيان المتربص دوماً ليبتلع كل انفتاح على اللامتناهي وليحيله الى الموت. ويأتي الشعر فإذا كل قصيدة قيامة! حياة إضافية! * أكاديمي لبناني متخصص في الفلسفة