عندما بدأت العاصفة الإسرائيلية الغادرة على لبنان، استناداً إلى حجج واهية تشبه حجة الذئب عندما يقرر اغتيال الحمل، أو حجة القاتل المغتصب عندما يتعلل بأوهى الأسباب الوهمية لتنفيذ جرائمه، شعرت بأن كل قنبلة إسرائيلية تسقط على المنازل، وتدمر الأحياء، ليست في لبنان وحدها، وإنما في مصر على وجه العموم وفي القاهرة على وجه الخصوص. شعرت أن لبنان - وطني الثاني - يغتال أبناءه العدو الغادر نفسه الذي اغتال ابن أختي على شاطئ قناة السويس، أثناء حرب الاستنزاف، والذي اغتال الأطفال الأبرياء في مدرسة بحر البقر، وفي عشرات المجازر التي ارتكبها على التراب المصري الذي لا يختلف عن التراب اللبناني، بل اتحد معه في مخيلتي المفزّعة وقلبي الحزين وعقلي المصدوم الذي لم يكف عن الحزن القاتم الذي ظل يتزايد كلما شاهدت صور الدمار على شاشات التلفزيون التي تحولت إلى فضاءات مرعبة للكوابيس التي نعيشها ولا نستطيع أن نبتعد عنها، أو نغمض أعيننا، بل نظلّ نُسمِّر هذه الأعين على الشاشات التي تعرض ما يبعث على اليأس والغضب والحزن والشعور المُذل بالعار. قرأت مرة أن عبده وازن قرر، أو كتب، أنه انتقل من مشاهدة شاشات التعذيب التي ندعوها"تلفزيونات"إلى الراديو الذي لا يضع الأعين في مواجهة جحيم الكوارث ومشاهد القتل والدمار والوحشية التي تتسبب فيها عقول إجرامية، خلت من معنى الإنسانية، ومضت في تمزيق أوصال الأراضي والأجساد العربية، سعياً إلى تحقيق فوضى خلاقة تصور؟! أو انتقال حتمي إلى شرق أوسط جديد، هو آخر صيحات أو آخر أوهام تجليات الاستعمار الجديد، أو آخر أطماعه فيما أدعو، ومن دون تفاؤل. وكيف أتفاءل؟! هذا الوطن العربي الكبير ممتد بحجم التابوت، لا يكف، في عجزه، عن الاتساع الذي يبدأ من المحيط إلى الخليج، غير تارك أي مكان، أو إمكان، إلا للموت والخراب. وينهض عليه حراس قبور يُطلقون على أنفسهم حكاماً، وكثير منهم ليس أقل خطراً - في أثرهم التدميري المباشر وغير المباشر - من العدو المغتصب نفسه. ولم أستطع أن أمضي في كتابة مقالي الأسبوعي في"الحياة"، وشعرت بالعجز يتسرب إلى أعصاب اليد والأصابع التي تمسك بالقلم، ولم أملك سوى التوقف عن الكتابة، خصوصاً بعد أن شعرت أن قلبي العليل أصلاً يكاد يتمزق بفعل ما يراه على شاشات تلفزيون التابوت العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، أو ينفجر بفعل تنقل العينين من مجازر العراق إلى مجازر لبنان إلى المئات، بل الآلاف، من ضحايا حوادث الإهمال في مصر نفسها، بفعل الفساد"الشيطان الأصغر المتحالف مع الشيطان الأكبر وخادمه المطيع. صديقي أحمد مستجير العالم المصري الشهير عالمياً بأبحاثه في تطوير الزراعة، وتقريب عوالم الجينومات إلى القراء العرب كان يتابع مشاهد دمار لبنان، فانفجر شريان في مخه، نتيجة شعوره بالعجز واليأس والعار والغضب في الوقت نفسه. وحاول الأطباء إنقاذه في أحدث مستشفيات النمسا، ولكنه ترك دنيا الفواجع التي نعيشها، كما لو كان يسجل احتجاجه وعجزه ورفضه احتمال ما حدث، ولا يزال يحدث، في مثلث النكبات: لبنانوفلسطينوالعراق. ونجيب محفوظ نفسه أخذ يدخل مرحلة صحية خطيرة، ويدخل في غيبوبة يهرب بها من تحطم أحلام العدل والسلام والعقل على هذه الأرض العربية التي أصبحنا نحمل كوارثها كالصلبان التي تسمِّرنا إليها عوامل كثيرة، فيما نطلق عليه - مجازاً - عالمنا العربي، ولم تعد الأنفاس الواهنة والوعي المتقطع إلى نجيب محفوظ إلا بعد أن جاءت أخبار تحمل بعض التفاؤل، على الأقل من بيروت التي احتضنت كتبه المصادرة، وبخاصة"أولاد حارتنا"، وأشاعتها في العالم العربي كله. وحاولت أن أهرب من مشاهدة التلفزيون، ولكني لم أستطع تماماً، فقد كانت الكوارث مرسومة يومياً في العناوين الرئيسة للصحف، والأذن تخايل العقل بما تهرب منه العين سدى، وبدا المشهد كما لو كان الموت من أمامنا ومن خلفنا، وحكّام الجور يحبسوننا في سجن ممتد، ننتظر فيه الدور المقبل علينا أو على أبنائنا أو أحفادنا في الذبح. وضاع العقل واهتز، وأصبح مغترباً، تماماً كما وصفه أمل دنقل في"سفْر العهد الآتي"، وهو ينقل من"سفْر العهد القائم": "أصبح العقل مغترباً يتسوّل / يقذفه صبية بالحجارة / يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني... / وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن ... سقط العقل في دورة النفي والسجن حتى يجنّ... ورأى الرب ذلك غير حسن". ومضيت مع أمل دنقل أقول لنفسي ما قاله في"سفْر التكوين"الذي تحوّل إلى"سفر التدمير": "أصبح العدل موتاً، وميزانه البندقية، أبناؤه صلبوا في الميادين، أو شنقوا في زوايا المدن... / أصبح العدل مِلْكاً لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان - الكفن". ظللت أقرأ قصائد أمل دنقل، وأستعيد أشعار صلاح عبدالصبور الحزينة في مراثي الوطن بعد كارثة العام السابع والستين، وأتحد ببطل"مسافر ليل"الذي أصبحتُ مثله مع الآلاف المؤلفة من أمثالي، مسافراً في عالم من الرعب والدمار، وأقول لنفسي ما قاله المسافر العاجز الذي أصبحتُ إياه:"ماذا أفعل؟! / ماذا أفعل؟! / في يده خنجر وأنا مثلكم أعزل/ لا أملك إلا تعليقاتي / ماذا أفعل؟! / ماذا أفعل؟!". وتذكرت ما قاله أدونيس عن زمان الخراب الجميل الذي لم يأتِ قط، بل جاء بدلاً منه زمان الخراب القبيح والعصف الفظيع، فلم يتحول الرماد إلى ورد، بل إلى غبار قنابل، مخضب بدماء الأبرياء، وتحولت الأحلام إلى كابوس متطاول. ولم ينقطع زمان الخراب المدمر والعصف القاتل المريع. وتذكرت ما كتبه محمود درويش عن مذابح فلسطين، وما كتبه عن بيروت على وجه الخصوص، وعن العواصم العربية التي تفر من بين الأصابع، فيرى - كما نرى - العالم العربي كله بددا. وتذكرت ما كتبه سعدالله ونّوس - في"منمنمات تاريخية"- عن إمبراطور العالم الجديد، وعن المثقفين الذين يُراءون ويُماشون ويوشون ياقاتهم برباط السكوت، وانتقل غضبي من حال إلى حال، جامعاً ما بين الشعور البالغ القتامة بالحزن والموت، إلى الشعور المماثل بالعار، إلى الشعور بالغضب العارم على الحكّام الذين يتقدموننا بالكلمات لا الأفعال، وبالشعارات لا الإنجاز. وقلت في نفسي ما قاله سعيد - مجنون ليلى المعاصر، في مسرحية"ليلى والمجنون":"- في بلد لا يحكم فيه القانون / يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة / لا يوجد مستقبل. في بلد يتمدد في جثته الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل / لا يوجد مستقبل". وأضفتُ: في بلدان يخاف حكامها من إغضاب سادتهم من أباطرة الزمن الجديد الأسود لا يوجد مستقبل، وفي بلد يتحارب فيه الإخوة الأعداء، ناسين أن قوتهم في اتحادهم، وفي حفاظهم على وحدة ترابهم الوطني، وحوارهم الطائفي الخلاّق، لا يوجد مستقبل. وقلت في نفسي كل الأفكار والهواجس القاتمة السوداء، وأحاطت بقلمي هواجس الجنون والعار ومشاعر الغضب والحزن واليأس الذي لم يكن يفتح ثغرة مضيئة فيه إلا مقاومة المقاومين الأبطال من الجنوب اللبناني، وجسارتهم التي أنهت إلى الأبد أسطورة ذلك الجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزم، وجعلت المدن الإسرائيلية التي ظلت منيعة هدفاً للصواريخ التي تؤكد حضور المقاومة، كما تؤكد أن كل شيء، مهما تفاقمت كوارثه، ينطوي على نقيضه، وأنه لا يوجد ليل مطلق أو سواد مطلق. فثمة نقطة ضوء تتخلق في مكان ما، وثغرة - مهما صغرت - تكسر جدار اليأس. ولكنني لم أستطع أن أواصل الكتابة على رغم ذلك. وعن ماذا أكتب؟! في نقد ثقافة التخلف كما تعودت أن أفعل أخيراً أو أمضي في تحليل الأعمال الإبداعية التي تنعش الروح، وتصيبها بالكآبة الخلاقة كما تفعل روايات كثيرة؟! ظل قلبي مثقلاً بأحزان ثقيلة قاتمة تعجزه عن الكتابة، مع شعور بالعار يُوقف القلم بين الأصابع، وأخيراً: قلت لنفسي: اللعنة حتى على الكتابة. واعتذرت عن عدم الكتابة في"الحياة"طوال شهر أغسطس شهر الأحزان والأوجاع، واكتفيت بالتليفون المحمول الذي كنتُ أطمئن منه على حياة أحبابي، حبات القلب، في لبنان، وأقول لهم كل ما كان يجيش به فؤادي، ولا أملك سوى أن أكتبه، وشاركتُ في ندوات - قدّم بعضها جمال الغيطانى - في تلفزيون"دريم"، وتحدثنا فيها عن الدور الذي قام به لبنان، ولا تزال تقوم به بيروت في تزويد الحياة الثقافية بالزاد الحر، المعاصرة والتراث، من الكتب التي تتباين اتجاهاتها، والحوارات التي تتنوع آفاقها. وذكرت لأقراني - جمال الغيطاني والحاج مدبولي وفاروق أبو زيد - أن أول مقالة نشرتها كانت في بيروت، وأن أولى الجرائد التي التزمتُ بالكتابة الأسبوعية فيها لا تزال في بيروت، وأن أهم كتبي وأكثرها تمرداً نشرتها في بيروت. وتذكرنا دور بيروت الرائع في إشاعة نزعات الحداثة الشعرية قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وقصيدة العامية، وحتى القصيدة العمودية، كما تحدثنا عن الترجمات البيروتية التي ظلت تمد المثقفين العرب بما كان دافعاً لكثير منهم على إتقان لغة الأصل، وتحدثنا عن جارة الوادي التي غنّى لها أحمد شوقي على لسان عبدالوهاب، والغضب الساطع الذي لم يفارق محبة لبنان - وطننا كلنا - الذي رددنا أصداءه على صوت فيروز. وتذكرنا أغنيات مارسيل خليفة ودوره الثوري، وما أدّت إليه الحرب الأهلية المدمرة إلى تعميد الرواية اللبنانية بالنار واللهيب، وصهرت منها ما يشبه المعادن النفيسة المتأبية على النار، والتي أصبحت أقوى من النار في تأثيرها وفيما نجحت في تحقيقه من وصف الحرب والخراب الإنساني الناتج من هذه الحرب إلى ما لم تصل إليه الرواية العربية في أي قطر عربي. وتذكرنا صديقاتنا وأصدقاءنا من الكُتَّاب والمفكرين والشعراء الذين أصبحوا إخوة وأخواتاً وأحبة، وجعلونا مثلهم نحب لبنان، ونغنى معهم"بحبك يا لبنان، بحبك يا وطني". ولا غرابة في ذلك، فالكثير الكثير من المثقفين المصريين يرون لبنان أقرب إليهم من حبل الوريد، وليسوا في ذلك وحدهم، بل يشاركهم فيه معظم - إن لم يكن كل - المثقفين العرب، خصوصاً عندما أوجعهم وأخرس عدداً كبيراً منهم الكابوس الذي تحول إلى جائحة قومية لم تبدُ لها نهاية. وتحول لبنان الرمز والحلم إلى نقيض ما كان عليه بصفته واحة حرياتهم الفكرية والإبداعية، وذلك قبل أن تتدخل أصابع الشر الخارجي لتثير النعرات الطائفية بين الإخوة الأعداء، وتؤدي إلى حرمان لبنان من نفسه وحرماننا من واحة حريته. وقلنا لأنفسنا إن هذا البلد الذي هو وطن لنا يشبه"العنقاء"التي تكررت في أساطيره الفينيقية، ذلك الطائر الذي ينهض من رماد موته، فتياً، عفياً، مملوءاً بالأمل والفرحة بالحياة والتفاؤل بالعهد الآتي الذي لا بد هو آتٍ بالإرادة العفية التي قاومت وبدأت البناء. وشيئاً فشيئاً، أخذ يفارقني العجز عن الكتابة، وبدأت أصابعي تعود إليها دماء الرغبة في تسْطير مشاعري، وذلك مثل كثيرين غيري من الكُتَّاب الذين أصابهم الخرس، ولكن الأمل الذي لا يمكن أن نعيش بغيره أعاد إليهم الرغبة التي تصارع الواقع، وتتأبَّى عليه، لتصبح الحياة أجمل، ولتجعل من كتابة القلم محاولة عنيدة، قد تتوقف تحت وطأة الكوارث لبعض الوقت، ولكنها تستعيد عافيتها مدفوعة بما فُطرت عليه - من حيث هي كتابة - من ضرورة مقاومة شروط الضرورة، والتمرد على الشر، واستنباط الأحلام التي هي بذور الزمن المقبل بالحرية والعدل كالنجمين الوضاءين على أصابع اليد التي تكتب، حالمة بالعهد الآتي، متمردة على العهد الآفل والزمن المريض الذي لا بد من علاجه وطعنه بالقلم الحربة، أو الريشة، التي ظل ناجي العلي يرسمها، كي يستفز فينا، وفي الواقع المحتضر، إرادة الحياة، ورغبة المجاوزة، والعودة إلى بناء كل شيء بعد دماره، ومن رماده، تماماً كما تفعل"العنقاء"التي أصبح اسمها"لبنان"التي هي سواد العين في قلوبنا وعقولنا.