قانا، بلدة لبنانية جنوبية هادئة، تحتضن آثاراً تعود الى ما قبل كتابة التاريخ، بالإضافة الى ما سجله الانجيل عن معجزة اجترحها السيد المسيح عليه السلام في عرس كان هناك، وزوارها يرون بوضوح رسوماً محفورة في الصخر يعتقد أنها لحواريي السيد المسيح الذين شهدوا معجزته المذكورة. في العام 1996 اطلق العدو الإسرائيلي صواريخه الأميركية الصنع، الموجهة بأحدث الأجهزة الأميركية ايضاً، وتحت غطاء كثيف من التحركات والمواقف الديبلوماسية الأميركية التي استخدمت حق النقض للوقوف في وجه أية محاولة لإدانة العدوان الإسرائيلي الذي سماه الصهاينة يومها"عناقيد الغضب". وجهت هذه الصواريخ عامدة متعمدة على تجمع لأهالي قانا على أبواب أحد مراكز قوة المراقبة التابعة للأمم المتحدة، وكانت النتيجة مذبحة ذهبت بأكثر من 110 من اللبنانيين مسلمين ومسيحيين دفنوا في مقبرة واحدة أصبحت مزاراً لمن يريد الاعتبار ومعرفة حقيقة الصهيونية. وعاد الأمن الحذر الى لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي من جميع أراضي الجنوب المحتلة في العام 2000 إلا من مزارع شبعا، التي أرادها العدو الصهيوني مسمار جحا، أي مبرراً لتهديد وتحرش دائمين بلبنان وباللبنانيين، كما استمر العدو الإسرائيلي في اعتقال مجموعة من اللبنانيين يعود تاريخ احتجاز بعضهم الى مرحلة السبعينات ! وبقيت قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بتنفيذ إسرائيل انسحاباً تاماً وإعادة الاسرى حبراً على ورق. انتهت مذبحة قانا الأولى بدفن الضحايا، ولكن قضية قانا وتداعياتها ورمزيتها بقيت عالقة داخل أروقة الأممالمتحدة من خلال الوثائق ونداءات الاحتجاج اللبناني على استمرار الاحتلال وعدم الافراج عن الاسرى، بالإضافة الى استمرارها في ذاكرة اللبنانيين، إذ لم يغير الانسحاب الإسرائيلي من رمزيتها شيئاً، فهي الشاهد الحي على عقيدة الصهاينة وسبل تعاملهم مع غيرهم، وهي المثل الملموس للشعار الإسرائيلي الصادق الوحيد:"العربي الجيد هو العربي الميت". منذ 1936 واللبنانيون يعانون بشكل دائم ومستمر ومن دون توقف من العنف الإسرائيلي، بشكل مباشر وغير مباشر، ويعانون من الموقف الأميركي المتبني للسياسة الإسرائيلية بتفاصيلها الدقيقة، فالأميركيون لا يرون أية حقوق لأي طرف آخر غير الإسرائيليين في المنطقة، لا يرون حق أبناء دول الطوق في حياة حرة كريمة، ولا في التعبير عن الإرادة الوطنية في سياسات أوطانهم الداخلية والخارجية، فالانتخابات البرلمانية - على سبيل المثال - وسيلة ديموقراطية مطلوبة ومقبولة إذا لم تأتِ بمخالفي السياسة الأميركية المطالبين بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي ك"حماس"و"الاخوان المسلمين"والجماعات الإسلامية و"حزب الله"وغيرهم، ليس مهماً - في اعتبار الأميركيين - أن تكون الدولة وأن يكون النظام الحاكم هنا أو هناك موالياً، فموالاة اسلياسة الأميركية ومعارضتها سواء عند الأميركيين، المهم أن تكون سياسات وأعمال هذا البلد أو ذاك متنكرة للذات تصب في مصلحة الصهاينة المحتلين الطامعين، في ما بأيدي العرب من ثروات وإمكانات، وأن يكون أمن الدولة العبرية فوق أي اعتبار، و"الأمن"في المصطلح الإسرائيلي، وبطبيعة الحال الأميركي، يعني ضعف الآخرين وتفككهم وانشغالهم في سلسلة متشابكة متداخل معقدة من المشاكل في كل صعيد يتمناه عدو لعدوه، في السياسة والاقتصاد والأمن والتعليم والإدارة والمجتمع وغيرها، على أن يقابل هذا الضعف العربي تفوق إسرائيلي في كل ميدان من الميادين. هنا تكمن المشكلة... العرب... وغير العرب، في التصور العقدي الإسرائيلي مخلوقات جعلها الله على هيئة الإنسان الإسرائيلي لخدمته، ليس لها حقوق في شيء، والفتات الذي يلقى إليها منة عليها أن تشكر الإسرائيليين عليه. ولعلكم تذكرون أن الأميركيين أرتأوا قبل أن يوجهوا طلائع قواتهم المحتلة الى العراق أن يأخذوا دروساً في كبت الضمير من الإسرائيليين، كان سؤالهم الذي نشرته وسائل الإعلام وقتها:"كيف يتمكن القادة الإسرائيليون الميدانيون من توجيه أوامرهم إلى عناصرهم في تدمير البيوت على رؤوس اصحابها من دون أن يخشوا عصيان الأوامر"، أو بمعنى أكثر ديبلوماسية:"كيف يبرر القادة العسكريون الإسرائيليون - أخلاقياً - أوامرهم للعناصر بقتل وتدمير وتشريد الأطفال والنساء وكبار السن"! ولعلكم تذكرون أن الأميركيين كانوا طلاباً نابهين، وبعض قصص معتقل أبو غريب دليل دامغ على ذلك، وبالمناسبة، ما زال الخبراء الإسرائيليون في كبت الفطرة والضمير الإنساني مرابطين فوق أرض العراقالمحتلة، جاهزين في كل لحظة لنقل التجربة الإسرائيلية في جنين وقانا لمحتاجيها من جيش الاحتلال الأميركي. ما جرى في لبنان منذ 1936 وحتى اليوم، كان الإسرائيليون فيه مخلب قط شرس متوحش متعطش للدماء، ولكن التشجيع غير المحدود والممدد غير المنقطع، والغطاء القانوني الوقح والتغطية الإعلامية المكشوفة كانت تأتي من هناك، من الغرب، الانكليزي في مرحلة تاريخية سابقة، والأميركي في مرحلة لاحقة وحتى اليوم. من منكم لم يسمع"المعلمة"كوندوليزا رايس وهي تتبجح، وفوق أرض المعاناة - بيروت - وقبيل ساعات من مجزرة قانا، بأن الإسرائيليين غير مضطرين لوقف فوري لاطلاق النار قبل أن يحققوا الأهداف الأمنية لحملتهم العسكرية!. الأميركية المتحضرة وقفت فوق جثث أمهاتنا وأبنائنا متطاولة فوق كل عرف وقيمة وديبلوماسية لتوجه أقسى أنواع التقريع لمستمعيها من النخبة اللبنانية الحاكمة، لأنها - أي هذه النخبة - اضطرت الأميركيين للتدخل بشكل مباشر وسافر لتنظيف المنطقة من قوى الاصولية والتشدد، ذلك لأن الحكومة اللبنانية لم تقم بهذا الواجب لصالح الأميركيين، كانت أمنية"المعلمة"أن تتولى الحكومات العربية للقيام بالمجزرة والانتهاء من فصائل مقاومة السياسة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي وبذلك توفر على مخلب القط الإسرائيلي العناء، وعلى الإدارة الأميركية الانشغال بتنظيف أوساخ الإسرائيليين في أروقة الأممالمتحدة وخارجها. تصريح رايس أطلق الضوء الأخضر لمجزرة قانا الأخيرة، كما أطلقت تصريحات سابقة مذبحة قانا الأولى و"أخواتها"، فلقانا عائلة كبيرة ممتدة من بحر البقر في أرض الكنانة وحتى جرود الشمال اللبناني مروراً بأكثر من أربعمئة مدينة وبلدة وقرية فلسطينية على شاكلة قانا ودير ياسين. مسكينة هذه السمراء، اضاعت بوصلتها، وكبتت فطرتها، وخدّرت ضميرها، واستطاعت في زيارتها الخاطفة الى بيروت وفي إدارتها لمؤتمر روما، أن تعطي الإسرائيليين الضوء الأخضر لارتكاب مجزرة قانا. ولكن ما هو الحصاد الإسرائيلي في البيدر اللبناني!، ماذا حقق الإسرائيليون حتى الآن من مطالبهم"المعلنة"!؟ الأرقام وحقائق الأرض تقول: زرعوا الريح وحصدوا الهواء، أي لا شيء. فالموقف اللبناني الحكومي والشعبي بات أكثر تلاحماً وصلابة في وجه العنف الإسرائيلي. أدخلت العمليات الإسرائيلية ضد الشعب اللبناني الرعب في قلوب الإسرائيليين والصهاينة المنتشرين في العالم، نظراً لحجم الانتقاد وارتفاع وتيرة الغضب العالمي الشعبي من الصلف الإسرائيلي وتعنته المرتبط بعقيدة التعالي والتفوق، والمعتمدة على أرباب معتقل غوانتانامو ومجازر أفغانستانوالعراق. إن نصيحة رايس لرئيس بلدية القدسالمحتلة سابقاً، ورئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي الغبي حالياً، أولمرت، بوقف فوري لإطلاق النار، يعني محاولة انقاذ عقيمة للموقف الإسرائيلي الذي أعماه ثالوث: الحمق والغضب والفشل. لم يعد في جعبة الإسرائيليين اكثر مما رأينا، ولكن في جعبة المقاومين للمشروع الأميركي - الإسرائيلي الكثير مما لم يتم استخدامه بعد، وستنتهي الحرب الإسرائيلية الحالية، طالت أم قصرت، وستنهار معها وزارة أولمرت، وسيكون على الإسرائيليين أن يختاروا قيادة أكثر واقعية لتخرج بهم بالحد الأدنى من خسائر الرمال المتحركة اللبنانية. ليت الإدارة الأميركية الحالية المنشغلة بإشعال الفتن في مشارق الأرض ومغاربها أن تنظر الى اسطورة هرمجدون من زاوية مختلفة، فالمسيح كان فلسطينياً، وحواريوه كانوا فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وأردنيين، وليتهم ينتبهون ولو لمرة واحدة أن الإسرائيليين يتتبعون كل أرض خطا فوقها السيد المسيح بالتدمير والتخريب. على الأميركيين والإسرائيليين الغارقين في قراءة الرموز التوراتية الانتباه الى أن لعنة قانا حاضرة مجربة ملموسة، اصابت القيادة الإسرائيلية الغبية في العام 1996، ولا يشك عاقل أنها أصابت القيادة الإسرائيلية الغبية الحالية، ليتهم يحذرون هم وحواريوهم من لعنة"قانا"أينما كانوا. كاتب وأكاديمي لبناني