لا ريب أن العنصر الأكثر تأثيرا على الشعور العربي المعاصر، في زمن ما بعد الاستقلال، هو الحرب وما تجلبه من إخفاقات وهزائم، وما قد يؤمل منها من انتصارات. ينطلق هذا التقرير من ملاحظة مضطردة: العرب يدركون أنفسهم كعرب، أي يتقاربون شعورا ومواقف، أثناء الحروب أكثر من غيرها. في هذا لا يختلف الشعور العربي عن غيره: شعور قومي، قراءته للحاضر والتاريخ درامية، تتسلسل فيها مواجهات وانتصارات وهزائم. كلمات الهزيمة والنصر والخيانة والبطولة والمجد والمهانة والحرب والعدو والأمة هي الأكثر حضورا وتداولا في لغة الشعور القومي بما هو كذلك. ربما تكونت الأمم في السوق، لكن شعورها يتكون في الحرب. وإذ توفر للعرب المعاصرين الكثير من الحرب والقليل من السوق، فقد حازوا الكثير من الشعور القومي والقليل من الأمة. الشعور العربي المعاصر ليس شعور العرب المعاصرين، هو أحد مستوياته فحسب، مستوى يتقدم على غيره في أزمنة الحرب ويتراجع في غيرها. لكن ليس أي حرب. أولا الحرب ضد إسرائيل في وصفها"العدو القومي"للعرب. وفي المرتبة الثانية حربي الولاياتالمتحدة العراقيتين. وليس هناك مرتبة ثالثة. الأعداء الآخرون هم أعداء دول عربية وليس أعداء العرب. ومن الشائع أن أعداء دول عربية هم دول عربية أخرى. تعي الدول العربية ذاتها ضد بعضها، فيما يعي العرب ذاتهم ضد إسرائيل والغرب. توالي هزائم عربية لم يعدل شيئا في بنية الشعور القومي، الدرامي والبطولي، بل لعله كرسه ورسخه. لكن ربما منحه شكلا مقلوبا: ميلودراما وتفجع وتخوين وهشاشة دائمة، تنزع إلى التعبير عن نفسها بالانفعال والصراخ والغضب. الشعور القومي في بلدان أكثر نجاحا من العرب في حروبها بات مطويا تحت طبقة من المدركات أوثق صلة بمطالب الأفراد والجماعات المادية والحقوقية والسياسية. في إسرائيل ذاتها تتعايش لغة مطالب اجتماعية مع لغة التحدي القومي الذي يصاغ بمفردات الوجود والبقاء شأن كل شعور قومي. بعبارة أخرى، يعبر الشعور الإسرائيلي عن نفسه بلغتين: لغة المشكلات العملية ولغة المخاطر الوجودية. الأولى سياسية وداخلية والثانية سيادية وخارجية، وتحل المشكلات الأولى بالسياسة والثانية بالحرب. وتتصدر لغة المخاطر في أوقات الحرب، وتتراجع في أوقات السلم. ورغم أن الهاجس الأمني الوجودي دائم في إسرائيل، إلا أن نبرته لا تكون تعبوية إلا في أوقات الحرب. في المقابل بقي التيار الرئيسي في الشعور العربي، في أوقات السلم كما الحرب، يعبر عن نفسه بلغة المخاطر والتحديات الوجودية وبنبرة استنفار وتعبئة حادة. قد يبدو هذا متناقضا. فتعذر كسب الحرب يفترض أن يدفع العرب نحو تسييس المخاطر وتفكيرها بلغة المشكلات. لكن يحول دون ذلك شيئان: تعذر تهدئة وتسييس إسرائيل بسبب فرط قوتها وتعصبها من جهة، ومن جهة أخرى تكوين وتفضيلات النخب السياسية والثقافية العربية. يناسب النخب السياسية، الحاكمة بالخصوص، التركيز على المخاطر الداهمة والتهديدات من أجل استنفار مجتمعها وإشاعة حالة طوارئ عقلية ومعنوية، إن لم يكن ايضا حالة طوارئ سياسية وأمنية وقانونية، ما يسهل عليها الحكم وكبح احتمالات الاعتراض الداخلي. وقد تنافسها نخب معارضة على ذلك من أجل نزع شرعيتها. بينما تجد النخب الثقافية في تغذية شعور قومي بطولي وقراءة درامية للتاريخ، ما يمنحها أكبر شرعية ممكنة، وما يشبع حاجتها إلى الانتماء والأمان النفسي والاجتماعي. ورغم أن مثقفين عربا غير قليلين يجتهدون لبناء مقاربات مختلفة للحاضر تركز على الفرد أو على الإصلاح التربوي والديني أو على المسائل الاجتماعية أو قضايا الأقليات، فإن هذا، وبصرف النظر عن قيمته من وجهات نظر أخرى، يبقى هامشيا بالقياس إلى تيار الشعور والحساسية العربية المهيمن. وحتى المثقفون الذين يتحللون صراحة من لغة الشعور القومي ورموزه ومخيلته، فإن أكثر نتاجهم درامي النبرة، مطبوع بالسخط والانفعال والغضب المميز لشعور قومي جريح، الأمر الذي قد يسوغ الاعتقاد بأن أصل التحلل هذا هو الخيبة المتكررة حيال الهزائم القومية. القصد أن نقول إن العرب متقاربون على مستوى الشعور حتى وهم متباعدون على مستوى الوعي. ومهما بدا ذلك غريبا فإن المشترك بين التيارين الرئيسي والمنشق هو التمركز حول الذات، وإن أخذ هذا صيغة إيجابية عن القوميين وسلبية عند اللاقوميين. أولئك لا يرون العالم إلا من خلال"قضايا الأمة"، وهؤلاء لا يكفون عن نقد أمة لا يستطيعون منها فكاكا. ويمنح موقف النقد نخبا محتجة شرعية الانشقاق والتمرد مقابل شرعية الانتماء واليقين التي يحظى بها التيار الرئيسي. ولا يمكن فيما يبدو لنا دحض التيار الرئيسي كأنه وهم أو حذفه كأنه فائض، لكن يمكن أن ينضوي كطبقة أعمق ضمن ثقافات وطنية عربية متعددة. والواقع أن درجة محدودة من انضواء الشعور القومي العربي تحت مطالب ديموقراطية وليبرالية محققة. لكنه انضواء متعسر، يتفجر بسهولة في أوقات المواجهة مع إسرائيل أو قوى غربية. كان لافتا، لكنه مفهوم، أن ديموقراطيين وليبراليين عربا تكلموا بلغة قومية أثناء الحرب، بينما تراجعت المطالب المتصلة بالإصلاح السياسي والثقافي إلى الوراء بينما اندفع آخرون مسافة أبعد في النقد وفك التماهي العربي: الدراما نفسها. ولعل أصل الهشاشة هو الترضيض المستمر للوعي العربي مرة كل بضع سنوات: خلال أقل من ستين عاما عشنا ست حروب مع إسرائيل عدا الحرب الدائمة ضد الفلسطينيين وحربين مع الأميركيين. هذا يعوق تراكما ثقافيا ونفسيا يتحكم باندفاعات الشعور وتكوينه الدرامي. يضاف إلى الحروب، كما أسلفنا، أن استنفار المشاعر القومية مناسب جدا لأنظمة حكم تشعر بالحصار في أوقات الهدوء بسبب اجتذاب قضايا الاستبداد والبطالة والفقر والفساد الاهتمام العام. هل يتغير شيء في هذا التحليل حين نتذكر أن العرب موزعون على أكثر من عشرين دولة؟ بالطبع. فهذا الواقع الصلب يبطن الشعور القومي العربي بشعور قومي محلي، مصري أو سوري أو مغربي. ويبرز هذا بالخصوص في الاحتكاكات والمنافسات بين الدول العربية. على أننا نسجل أن الشعور القومي العربي أبدى حضورا وصلابة لافتين، رغم كوارث عديدة تسببت بها أنظمة تنسب نفسها إلى العروبة أكثر من غيرها، ورغم انه ليس هناك حركة قومية عربية منذ عقود، ورغم أن فكرة التضامن العربي، دع عنك التوحد العربي، تثابر على التعثر منذ"زمنها الأصلي"في الستينات السابقة على هزيمة حزيران. فهل يكون الطابع الافتراضي للأمة العربية عنصر دعم للشعور القومي لا عنصر إضعاف؟ وهل يمكن للشعور العربي أن يستمر طويلا محافظا على استقلاله عن تعدد الدول ورسوخ كياناتها؟ وهل يضعف هذا الشعور الدول القائمة بأن تنافسها أمة افتراضية على الولاء والشرعية؟ وهل من شأن ضعفه أو تراجعه أن يفيد في تطابق الشعور القومي ودول قومية عربية متعددة، فيكون هناك شعور قومي مصري وآخر سوري وثالث سعودي؟ وهل تراجعه ممكن دون حل المشكلة الإسرائيلية؟ أيا تكن إجابات هذه الأسئلة، فإن وجود شعور عربي مشترك، مستقل عن الوقائع السياسية والجيوسياسية التي يعيش في ظلها العرب المعاصرون، أمر أكيد. ونميل إلى الاعتقاد بأن من شأن تسوية معقولة للمسألة الفلسطينية وصيغة نشطة من التضامن بين الدول العربية أن يسمحا بإعادة هيكلة الشعور العربي ليغدو أقل تمركزا حول الذات، وأقل درامية وعاطفية. وهما، التضامن وإنصاف الفلسطينيين، ما يبدو أن الشعور العام ينجذب إليهما، متباعدا في آن عن وحدة عربية ناجزة وتحرير ناجز لفلسطين، كما عن لا مبالاة بشؤون العرب الآخرين وبمصير الفلسطينيين. في أفق الحاضر، يبدو هذان موقفين قصوويين ونخبويين على حد سواء.