حسناً فعل عبده وازن بإصدار الحوارات التي كان أجراها مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش ونشرت في جريدة"الحياة"في كتاب مستقل، مضيفاً اليها قراءات نقدية في بعض أعمال درويش الأخيرة. ذلك أن محاورة الكبار من الشعراء والروائيين والمبدعين عموماً، قد تتيح لهؤلاء فرصة نادرة لتقديم تجاربهم في محطاتها المختلفة من جهة وللوقوف على الخلفيات الفكرية والمنابع الحياتية والوجدانية لهذه التجارب من جهة أخرى. وإذا كانت هذه الحوارات تتم بين شاعرين مختلفي المناهل والأساليب، أو بين ناقد محترف ومبدع كبير، فإنها تتيح لهذا الأخير قدراً من البوح والمكاشفة الصادقة التي يتعذر عليه تقديمها في مذاكراته أو سيرته الذاتية بسبب الخجل أو الحرج من أن يكون الوجه والمرآة في آن واحد. وما يعزز هذا الزعم أن الحوارات المطولة التي أجريت سابقاً مع مبدعين آخرين من وزن غابرييل غارسيا ماركيز ونجيب محفوظ وأدونيس وصلاح ستيتية وغيرهم ضاهت في جمالها وعمقها أبرز النصوص الأدبية ومكَّنت القراء من الوقوف على الكثير من خفايا الكتابة ومباهجها وعذاباتها وأسرارها المغلقة. كان يمكن لعبده وازن بالطبع أن يكتفي بنشر حواره المطول والغني مع محمود درويش ولكن استهلال كتابه"محمود درويش/ الغريب يقع على نفسه"، والصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، بالمقالات التي تناولت أعمال الشاعر الجديدة أعطى للكتاب لمسة خاصة ووفر للقارئ مقاربة أخرى للعلاقة بين شاعرين ينتمي كل منهما الى جيل مختلف كما والى رؤية مختلفة للشعر. فوازن الذي يكتب قصيدة النثر منذ نعومة أظفاره ينتمي الى حساسية شعرية مختلفة لغة وإيقاعاً وأسلوباً عن حساسية درويش التي لم تغادر الوزن إلا في ما ندر والتي لا ترى في الإيقاع الخارجي عائقاً أمام مشروعها الحداثي وتجريبيتها الجريئة. ولهذا السبب بالذات يكتسب الحوار صدقية كبيرة ودلالات متعددة الإشارات كونه لا يتم بين متشابهين أو متماثلي النظرة الى الشعر بل بين ضفتين متباينتين للكتابة. ومع ذلك فإن قبول الآخر واحترام مشروعه التعبيري والرؤيوي، على رغم الفروق، هو ما يعطي الكتاب قيمة اضافية في زمن التنابذ والاستئصال والحروب الصغيرة القائمة حول معنى الشعر وهويته ودوره. في تقديمه للكتاب يلح عبده وازن على التغيرات التي أصابت شعر محمود درويش في أعماله الجديدة والتي ظهرت ارهاصاتها مع أعمال أكثر قدماً على المستوى الزمني مثل"ورد أقل"و"لماذا تركت الحصان وحيداً". كما يكشف عن قدرة درويش الدائمة على تجديد نفسه بين كتاب وآخر ملمحاً مع ذلك الى ان المرحلة القديمة من شعر درويش، وشعراء فلسطينيين آخرين كانت"تمتدح البطولة والحماسة وتدعو الى الشهادة فداء للأرض المسلوبة"كما"كانت القضية تسبق الشعر وتصنعه وكان الشعر دوماً وراءها، يتأثر بها أكثر مما يؤثر فيها". وقد لا يكون الكاتب مغايراً للحقيقة من بعض الوجوه حيث تكون البدايات غالباً متصلة بالغناء والترسل العاطفي الحماس المبكر للقضايا التي يرتبط بها الشعراء. إلا أن هذه المسألة في رأيي تحتاج الى مزيد من التفحص والنقاش لا بالنسبة الى محمود درويش وحده بل بالنسبة الى شعراء مماثلين أيضاً. ذلك أ ن في الأعمال الأولى وان اعوزتها المهارات العالية التي يكتسبها الشاعر عبر الدأب والاشتغال والتقصي المعرفي في الكثير من اللهب وقوة العصب والفوران التلقائي للُّغة. لذلك فإن ميزاناً للربح والخسارة لا تنبغي إشاحة النظر عنه في تناول أية تجربة شعرية بالمطلق. وقد آن الأوان أيضاً أن ننصف أولئك الذين رأوا في شعر صاحب"عاشق من فلسطين"وپ"أعراس"وپ"محاولة رقم 7"اجتراحاً مبكراً للمعادلة الصعبة التي تجمع بين الانتماء للقضية وبين ترجيحاتها التعبيرية الحافلة بالصدق والتوهج وملموسية الصور والأحاسيس. وإذا كان البعض يرون في البواكير على عفويتها، التصاقاً بلحم الحياة ودمها الفتي وبذلك الانفجار الأصلي الذي يشبه رعشات البلوغ الأولى فإن تلك النظرة ليست بعيدة جداً عن الحقيقة وان كانت تتبلور في شعر درويش، وقلة معه، أكثر مما تتبلور عند آخرين، تبعاً لتكوين كل شاعر وقوة موهبته. بمعزل عن هذه الاشارة التي تحتاج الى مزيد من البلورة والنقاش يظهر عبده وازن في قراءته لمحمود درويش قدرة فائقة على الإنصات الى دبيب شعره الخفي كما الى ايقاعاته التي تعتمد التدوير والتقفية الداخلية في ديوانه"لا تعتذر عما فعلت"كما الى إفادته من قصيدة النثر وتلمس اختباراته الجديدة للغة كما لتناول العالم في تفاصيله ونثاره اليومي. كما يشير الى أن المعايير التي اعتبرتها سوزان برنار أساساً في رسم ملامح قصيدة النثر وتعريفها تنطبق برمتها على شعر محمود درويش باستثناء المجانية التي فقدت في رأيه ذريعتها حتى لدى شعراء النثر أنفسهم. اضافة الى ذلك يركز وازن على صورة الأنا/ الآخر لدى الشاعر بما يجعل كليهما وجهين لحقيقة واحدة وبما يتصادى مع رؤية رامبو الى العالم والذي جعله درويش قناعاً له في بعض قصائده. ثمة أيضاً قراءات مماثلة لديوان"سرير الغريبة"الذي يتجاوز ثنائية المرأة/ الأرض في شعر درويش السابق ليدخل بدوره في لعبة انصهار الأنا بالآخر وسعيهما معاً نحو كينونة واحدة. هذا الانصهار يتكرر عند الشاعر في غير وجه حيث يصبح انصهار الشعر بالنثر وانصهار الغنائية بالفكر وانصهار الذات بالعالم. أما"الجدارية"فيرى وازن فيها نوعاً من الملحمية الخاصة أو الذاتية التي تستبدل الصراع بين الجماعات وبينهم وبين الآلهة بصراع مع الموت يسبر من خلاله الإنسان معنى وجوده على الأرض ويرى الى الفن بصفته الوسيلة الأنجع لمخاتلة الموت ما دمنا غير قادرين على هزيمته تماماً. سيكون من الصعب اختزال اعترافات محمود درويش في الجانب الحواري من الكتاب بصفحات أو أسطر قليلة. وليست مهمة هذه المقالة بأي حال هي استعادة الأفكار التي يتضمنها الكتاب الذي لا تغني أية مقالة عن قراءة نصه الأصلي. لكن قارئ الحوار يعثر على الكثير من النقاط المشتركة بين أفكار وازن النقدية وبين طروحات درويش، وهو ما يظهر بوضوح من خلال الحديث عن البدايات وبخاصة تلك التي حذفها الشاعر من أعماله الكاملة بدءاً من"عصافير بلا أجنحة"ووصولاً الى قصائد عدة نشرت في الصحف ولم يتضمنها الديوان. وإذا كان الشاعر يتبرأ من اللافتات الشعرية التي ترفع أحياناً باسم الأيديولوجيا والقضايا الكبرى إلا أنه يبقي الأمر مفتوحاً على الشكوك حين يسأل:"ما هو الشعري وما هو غير الشعري؟". وربما كان هذا السؤال حاضراً دائماً في بال الشاعر وهو ينتقل بتجربته من طور الى طور من دون أن يمتلك اليقين النهائي. ذلك أن اليقين ليس أبداً من صفات الشعراء الحقيقيين الذين يجاورون المتنبي في قلقه الأبدي. وما يرد في مقالات المؤلف حول المواءمة بين النثري والشعري في قصائد محمود درويش تتضح معالمه أكثر فأكثر في سياق الحوار. حيث يبدي الشاعر اعجاباً واضحاً ببعض تجليات قصيدة النثر وببعض شعرائها الذين لا يسميهم، ولو أنه دعا بعضهم الى عدم الوقوع في الفخ نفسه الذي نصب لهم من قبلُ والعمل على إلغاء الآخرين. كما يعبر عن افتتانه الشديد بالنثر الخالص وبالرواية التي يتمنى لو يملك الجلد على كتابتها، كما انه لا يجد في ازدهارها وجهاً من وجوه ضمور الشعر او اضمحلاله. يتحدث درويش بصراحة بالغة عن طقوس الكتابة لديه وعن أزمته مع الورقة البيضاء وعن الأعراض التي تلبس في البدء لبوس الايقاع الغامض. أما اعتباره بأن كل شاعر يحمل في داخله تاريخ الشعر منذ"الرعويات الشفهية"وصولاً الى الشعر الحديث فيلتقي الى حد بعيد مع قول نوفاليس:"ان الشاعر يقف على البشرية كما يقف التمثال على القاعدة". وقد تكون بعض الأفكار التي وردت في سياق الحوار معروفة سلفاً من قراء الشاعر الذين تابعوه في حوارات عدة سابقة، كما أن بعضها المتصل بطقوس الكتابة وتهيؤاتها قد يكون مشتركاً بينه وبين شعراء كثر لكنه ما يلبس أن يفاجئ الجميع بقراءاته التي لا تخطر على بال ولا تدخل مباشرة في دائرة اهتمام الشعراء مثل قراءاته عن تاريخ القراصنة أو عن الملح أو عودته المستمرة لتصفح"لسان العرب". وقد تكون هذه اللفتة الأخيرة هي"الخبطة"الأكثر إدهاشاً في الحوار الشيق حيث انها تكشف عن مصدر غريب لإثراء قاموس الشاعر. وإذا كان قد اصطلح على أن لغة الشعر هي النقيض المباشر للغة القواميس الجامدة فإن اعتراف درويش يزيل هذا التناقض بقدر ما يكشف عن أن الشاعر الحقيقي يستطيع أن يستعين بكل مصادر اللغة ومناجمها الأم لكنه وحده القادر على نقل اللغة من بلادة القواميس وحيادية اللفظ ليضرم من تحتها نار المخيلة ويدخلها في زواج نادر الحدوث بين اللفظ واللفظ من ناحية وبين الشكل والمعنى من ناحية أخرى. يبقى القول أخيراً إن العنوان الذي اختاره عبده وازن للكتاب هو من العناوين الجميلة والمشبعة بالدلالات وهو وإن كان منتزعاً من سياق إحدى قصائد الشاعر يعبر أبعد من القصيدة عن علاقة الشاعر بلغته، كما عن علاقته بذاته وبالعالم. فالشاعر هو أكثر الكائنات توحداً على الأرض ولذلك فهو غريب في اللغة كما في الحياة، في المنفى كما في الوطن، بما يؤكده قول هلدرلن:"عندما نفسك تتخطى زمنك/ غريباً تمكث حينئذٍ على رصيف بارد/ مع أهلك وأنت لا تعرفهم".