لا مؤشر إلى فعل الكذب، إلاّ حدس المتلقي واعتقاده بحدسه، أو عواقب الفعل التي غالباً ما تظهر متأخّرة، بعد الفضح. وحده"بينوكيو"، تلك الشخصية الكرتونية، يبان عليه الكذب: يطول أنفه عندما لا يقول الحقيقة، ويقصر عندما يصدق... هكذا وبكل بساطة. والبارع في الكذب وفي"إخراج"المواقف و"إدارة"مواضيعه، يقارب الممثل المسرحي، تحديداً، لأن الأخير يؤدّي أدواره دائماً في حضور الناس. غير أن بين الممثلين على خشبة المسرح والمتفرّجين تواطؤاً أو تفاهماً ضمنياً على أن"فلاناً"يمثّل شخصية"علتان"، بهدف التسلية أو الترفيه فلا يحسبونه كاذباً. أما في الواقع، ف"فلان"ينتحل شخصية"علتان"، أو يطلق كذبة ولا اتفاق سابقاً ولا أنفيطول. ولذلك، عند ينكشف أمره يثير سخط الناس فيحاسبونه... ولو أن"المحاسبة"، في هذه الأيام، فعل يتمنى الناس تطبيقه بصراحة وشفافية. والكذبة البيضاء، موضوع ملحق"أسرة"، تُستخدم في محاولة لتبديد احتمال وقوع أمر يُعتبر سيّئاً. وهي، في كل أحوالها وألوانها، كذب، من وجهة نظر المعالج النفسي توني نادر، فلا وجود لكذبة بيضاء وأخرى سوداء، شأنها شأن السرقة، كبيرة كانت أم صغيرة، يبقى مرتكبها سارقاً. ومن تجربته الشخصية، في البيت والعمل، يرى نادر ان الكذبة الصغيرة غير ضرورية، فالصدق كان دائماً ينقذه. وهو يعوّل على قول الحقيقة في عمله، وبخاصة خلال جلسات"العلاج العائلي"للمرضى، مهما كانت مشكلاتهم جارحة أو مخزية، بهدف إنقاذ"المريض"وخلاص من حوله أو من حالاتهم مشابهة لحالته. ويعتقد نادر أن الإنسان مستعد ليكون صادقاً ومنفتحاً، يحب الاستكشاف والمغامرة. فيسلك طريقاً من اثنين: طريق الحياة بقول الحقيقة والعمل الصادق. وطريق الموت، أو الهلاك النفسي. والكذب من فروع هذا الطريق. ويشير نادر الى أن الكذب من المشاعر السلبية التي تصيب من يتبعها بالإجهاد، في نهاية المطاف، لأنه يبقى، طوال الوقت، في انتظار مغبّة أفعاله. ويشبّه الأمر بالذي يخسر ثروة ويحافظ، باستدانة الأموال، على مستوى الترف نفسه قبل الخسارة، مصدّقاً كذبه على نفسه. وأخيراً، ينهار، مخيّباً آماله وآمال أعزّ الناس إليه. وخيبة الأمل، يحلل نادر، هي من المخاوف التي تدعنا نلجأ إلى الكذب، كوسيلة دفاعية عن"قيمة"ما، يحددها الفرد. ويقابل ذلك حالة من لا يهاب الموت أو الفشل، كالذي يذهب في عملية انتحارية أو كالمصاب بأمراض نفسية معيّنة، لا يضطرّ إلى الكذب ولو لإنقاذ حياته، فهذه الأخيرة زالت من حسبانه. والكذبة البيضاء مفهوم أو مصطلح، اجتماعي. ولكن، في حال مصاب بالسرطان يخفون عنه حقيقة أمره، يتساءل نادر، فهل هذه كذبة بيضاء؟ وينبغي أن يعرف حقيقة مرضه ليقويّ دفاعاته ويقاومه، لا ليشفى منه، إنما للمواجهة ومتابعة سير الحياة في شكل طبيعي مع الآخرين، على الأقل.