حين يذكر اسم لوليتا في أيامنا هذه، قد يقفز الى ذهن محبي السينما اسم الممثلة الحسناء سوليون، التي كانت مراهقة مثيرة أوائل ستينات القرن العشرين، حين جعل منها ستانلي كوبريك بطلة فيلمه الذي حمل اسمها"لوليتا". ذلك أن أداء سوليون وحضورها في هذا الفيلم لا ينسيان. أما هواة السينما الأكثر تمكناً فإن اسم"لوليتا"سيذكرهم بكوبريك نفسه، ذلك الفيلم الذي أتى بعد"سبارتاكوس"ليوصله أعلى درجات الشهرة ممهداً لأفلام تالية له مثل"أودبسا الفضاء"و"دكتور سترانجلاف"و"اشراق". وكان"لوليتا"الى ذلك، أول فيلم حققه كوبريك بعد هجرته الغاضبة من الولاياتالمتحدة الى انكلترا حيث أقام حتى رحيله. غير أن هواة الأدب والأدب الرفيع تحديداً، من المؤكد أن اسم"لوليتا"سيسير بهم في اتجاه آخر، نحو فلاديمير نابوكوف، الروائي الأميركي الأصل الروسي المنشأة والولادة، والذي كانت"لوليتا"وتبقى واحدة من أكثر رواياته شهرة وشعبية. هؤلاء ينظرون الى"لوليتا"بوصفها واحدة من روايات القرن العشرين، الاساسية، لكن كثراً منهم يفضلون عليها بالتأكيد روايات أخرى لنابوكوف مثل"آدا"و"نيران شاحبة".. حتى وإن كانت هاتان الروايتان أقل شهرة من"لوليتا". بل يمكننا القول إن هذه الأخيرة، صنعت لنابوكوف شهرة خطأ، إذ نظر عبرها كثر الى أدبه على أنه أدب جنس وإباحية. بالمراهقة ابنة الرابعة عشرة، انما أراد أن يصور لنا مسار الجنون الذي يصيب المرء اذ ينجو بتركيزه وكل جوارحه ناحية حب يستحوذ عليه كل مشاعره. هذا الجنون هو الموضوع الأساسي في"لوليتا"ولولا مركزيته لما كان من شأن كوبريك أن يحوّل الرواية الى فيلم، هو الذي كان الجنون"قيمة"أساسية دائمة في أعماله. والحال أن هذا البعد الذي ربط بستانلي كوبريك بالنسبة الى فيلم"لوليتا"، كان أحرى به أن يربط بنابوكوف ايضاً وبشكل خاص، لأن من يقرأ بعض أعمال هذا الكاتب الكبير، الأخرى، يكتشف هذه الحقيقة. ومن ضمن هذه الاعمال خاصة روايته المبكرة"دفاع لوجين"التي صدرت عام 1929 في موسكو، أول ما صدرت، بتوقيع مستعار هو ف. ستيرن، ثم عادت الى الصدور مرات ومرات، وتبدل اسمها في الترجمات المختلفة لتصبح مرة"لوجين"ومرة"المعرض". لكنها بقيت في الجوهر، هي هي دائماً، بقيت عملاً عن الجنون كبعد أساس من أبعاد حياة الانسان، وكصنو لوحدة المرء مع أفكاره. ولإلحاح شيء ما عليه حتى يفقد كل احساس بكل الأشياء الأخرى. من يعرف"لوليتا"سيجد أن هذه العبارات تكاد تصفها، لكن من يقرأ"دفاع لوجين"سيحس على الفور أن الوصف ينطبق عليها. واذا كان موضوع الشغف ومبعث الجنون في"لوليتا"هو الحسناء المراهقة، فإنه في"دفاع لوجين"لعبة الشطرنج. اذاً عالم رواية"دفاع لوجين"هو هذه اللعبة. أما بطلها فهو المدعو لوجين، الذي يتعامل في الرواية مع الشطرنج تعامل هومبرت هومبرت في"لوليتا"مع حسنائه المحبوبة. ومن هنا تبدو الروايتان متشابهتن في اعماقهما. أو كأن نابوكوف، حين كتب"لوليتا"في زمن متأخر من حياته، كان كل ما يفعله انما هو كتابة"دفاع لوجين"بشكل آخر، ظاهرياً وجواً وشخصيات. فلاديمير نابوكوف نفسه، حين كان يتحدث عن"دفاع لوجين"لاحقاً كان يحرص على وصفها ب"رواية مسلية مقابرية". وهي بالتأكيد مسلية مثل معظم اعمال نابوكوف. وهي بالتأكيد أيضاً مقابرية، مثل هذه الاعمال. وهي قبل هذا وذاك، حكاية شغف واستحواذ. فبطل الرواية لوجين، الكسندر لوجين، رجل يخيل الينا أول الأمر أنه عادي متوسط المكانة والاهتمامات، لكننا سرعان ما ندرك أن هذا البطل تراجيدي، وأنه شغوف أولاً وقبل أي شيء آخر بلعب الشطرنج. بل انه يملك في هذا الاطار موهبة نادرة تقوم في قدرته المسبقة على التنبؤ بالحركة التي سيقوم بها خصمه والالتفاف عليه قبل ذلك، ما يمكنه من الانتصار وبفوارق كبيرة. وهكذا اذ تصبح للوجين شهرة فحواها أنه لا يهزم، ينتهي به الأمر الى أن لا يعود ثمة خصم في اللعب جدير بأن ينازله، سوى هو نفسه. وهكذا يبدأ باللعب وحيداً ضد نفسه. لكنه حتى هنا يصبح الفشل حليفه إذ ينهزم أمام لعبته الخاصة، ما يبدأ بالسير به الى الجنون. وهذا يحدث تحت سمع وبصر زوجته المحبة، الهشة والضعيفة بدورها، مع أنه يتعين عليها أن تتماسك حتى تتمكن من مجابهة هذه الموضوعية كما سيكون حال والدة لوليتا الرواية التي ستحمل اسم هذه الأخيرة... وهكذا تبدأ بالنضال الصعب والجدي ضد هذا"الجنون"الذي بدأ يستبد بالكسندر لوجين، محاولة أن تنقذه من ذلك التباري القاتل مع ذاته، من ذلك الهبوط الى الجحيم، ساعية الى اعادة تكييفه مع الحياة اليومية وعاديتها. غير أن الأوان يكون قد فات كما سوف ندرك بسرعة، ذلك أن حب الزوجة لزوجها ونواياها الطيبة وسعيها المستحيل لانقاذ السعادة الزوجية، سرعان ما يصطدم هذا كله بذلك الجنون الضاري، الشبيه بأعلى مستويات العمل الفني، الذي صار جزءاً أساساً من شخصية الزوج. فهو، في ابتكاراته اليومية في الشطرنج، وسعيه الوحشي للتفوق على نفسه، رفع الأمر كله، بما فيه الجنون الى مستوى الفنون الجميلة. بل لنقلْ أوصل ذلك الفن الجميل فن لعب الشطرنج الى مستوى الجنون، حيث بات علينا هنا أن نلاحظ أن استحواذ الشطرنج وفنونه على الكسندر استحواذاً يذكر بما كان للقمار من أثر على دوستويفسكي في رواية"المقامر"تحديداً -، هذا الاستحواذ لا يعود متسماً بالسلبية فقط، بل يصبح جزءاً أساساً من عملية ابداع فني، يقف قارئ الرواية حائراً أمامها، كيف يتصرف واي موقف يتخذ، كما ستكون الحال عليه بالنسبة الى علاقة القارئ مع جنون هومبرت في"لوليتا"حيث يبدو جنون الحب هُنا، نوعاً رفيعاً جداً وقوياً جداً من الفن الجميل، ما يحول تعاطف هذا القارئ من لوليتا، التي كانت تبدو ضحية هذا الحب، الى هومبرت والنظر الى الصبية الحسناء باعتبارها الجلاد لا الضحية. هنا، اذاً، في"دفاع لوجين"وإذ يتخذ الهوس بالتفوق المطلق في الشطرنج بعد الهوس بالعمل الفني، وصولاً الى التسلل الى عالم قطع الشطرنج واقامة علاقة شغف بها، وبهندسة رقعة اللعب نفسها، يشعر القارئ فجأة وكأنه يشاطر لوجين"جنونه"هذا الجنون الذي يصبح مستوى رفيعاً من الفن الجميل. اما بالنسبة الى لوجين، فإن كل شيء من بعد ذلك المستوى الذي بلغه يصبح فراغاً، يحسه عقله ويدور فيه وحوله، ما يعيش لوجين كله في دوامة فراغ ولا جدوى تُحسّ حينما يبلغ الفن كما لا يمكن من بعد ذلك تجاوزه. هنا في هذه الوضعية لا يعود أمام لوجين إلا أن ينتحر، ويصبح انتحاره نهاية منطقية للغة فنه المطلقة. يصبح أمراً لا مفر منه، لا مجرد مأساة فردية. حين كتب نابوكوف هذه الرواية كان في الثلاثين من عمره... وكان واضحاً انه يسلك انطلاقاً منها طريقه الخاص ليصبح واحداً من أكبر روائيي القرن العشرين، ولكن بالمضي السردي القديم لمفهوم الرواية، لا بالمعنى الثقافي التجريبي. إذ أن نابوكوف المولود العام 1899 والراحل بعد ذلك بتسعين عاماً تقريباً، كان حكوائياً من طراز رفيع، مثله في هذا مثل معاصرين له في القرن العشرين مثل البرتومورانيا وغراهام غرين، من اولئك الكتاب الذين شكلوا الى حد ما نقيض تيارات الوعي والرواية الفلسفية وغير ذلك من توجهات وتيارات اعطت الرواية ابعاداً رفيعة المستوى لكنها ابعدتها الى حد ما، عن مستويات شعبية، عرف نابوكوف وغرين ومورانيا وامثالهم كيف يدنون منها بقوة وتألق.