كانت الحرب على لبنان، في أحد وجوهها، حرباً على إيران وتحالفاتها الإقليمية "حزب الله"في لبنان والنظام السياسي في سورية بغية نزع أوراق القوة الإقليمية من أيدي صناع القرار في طهران، قبل استهدافهم مباشرة عبر التصعيد في الملف النووي. وفي غمار الحرب أصدر مجلس الأمن القرار 1696 الذي أمهل إيران حتى نهاية شهر آب أغسطس الماضي للتوقف نهائياً عن تخصيب اليورانيوم، وهو الأمر الذي لم تمتثل له إيران التواقة الى لعب دور إقليمي عبر امتلاك التكنولوجيا النووية وتحالفاتها العابرة لحدودها السياسية. ومن دون الخوض في تفاصيل الملف النووي الإيراني التقنية والقانونية"فمن الواضح أن إيران أصبحت الهدف الأول لواشنطن الآن، وذلك بعد أن استثمرت طهران الإخفاقات السياسية الهائلة لواشنطن سواء في أفغانستان 2001 أو العراق 2003 لمصلحتها، حتى استطال النفوذ الإقليمي الإيراني في المنطقة كما لم يحدث منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوي في عام 1501. وهكذا أصبحت المداورة الإستراتيجية تجاه واشنطن وعرقلة مشاريعها، فضلاً عن البراعة في استثمار تناقضات المنطقة درساً إيرانياً شبه يومي تتلقنه واشنطن"التي صارت بفعل الوجود المكثف لقواتها العسكرية في المنطقة، طرفاً إقليمياً بامتياز. وأدى الوجود المكثف للقوات الأميركية في المنطقة، خصوصاً بعد احتلال العراق، إلى الإطاحة بالتوازنات الإقليمية في منطقتنا وإلغاء الأدوار الإقليمية لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط سواء تركيا أو الدول العربية الرئيسية مثل مصر، مع استمرار إسرائيل في الاحتفاظ بدور الوكيل الوحيد لواشنطن في المنطقة. وإذ ساهم تحالف واشنطن مع الأكراد في العراق وطفرة الطموحات القومية الكردية، في إقامة منطقة كردية عازلة في شمال العراق تمنع تركيا من الانخراط في شؤون المنطقة، فإن واشنطن لم تقم وزناً لحساسيات المنطقة ودولها المتحالفة معها. وتجد تلك المقولة ترجمتها الأدق في حالة العراق، سواء في شمال العراق بالنسبة الى تركيا أو في جنوبه بالنسبة الى الدول العربية، حتى لم يبق هناك من أطراف إقليمية فاعلة سوى واشنطن نفسها التي تحتل العراق عسكرياً، وإيران التي تهيمن على معظمه سياسياً في ظل الاحتلال العسكري الأميركي. وأثبتت حرب لبنان 2006 عدم قدرة إسرائيل العسكرية والديموغرافية على ملء الفراغ الإقليمي الناتج عن إخفاقات السياسات الأميركية في المنطقة، وربما أيضاً عجزها عن أداء وظيفتها الإقليمية الوكالة التي تولتها لحساب المصالح الأميركية في المنطقة منذ العام 1967. ففي حين خرجت إسرائيل من حرب 1967 بنتيجة إقليمية أبرز هي جدارتها في حيازة دور الوكيل الوحيد في المنطقة للمصالح الأميركية، فإن حرب لبنان 2006 شككت في هذه الجدارة وألقت الضوء على محدودية قدراتها على تنفيذ هذا الدور ناهيك عن قدراتها في الاحتفاظ به. وهنا بالتحديد تكمن أهمية النتائج الإستراتيجية للحرب الأخيرة، التي دخلت تاريخ التوازنات الإقليمية الشرق أوسطية، باعتبارها فاصلاً بين زمنين وعهدين. تشهد المنطقة فراغاً إقليمياً بالترافق مع اهتزاز قدرة الوكيل الوحيد للسياسات الأميركية، وهو ما يفتح الطريق أمام فرصة تاريخية جديدة للدول العربية، ومصر والسعودية في مقدمتها، لتعديل التوازنات السابقة على حرب لبنان واستثمار نتائج الحرب لتثبيت دور إقليمي عربي في المنطقة من جديد. صحيح أن الدول العربية تعاني من مشكلات متنوعة داخلية وإقليمية، وأن أدوارها الإقليمية أصبحت في سقفها الأدنى منذ قيام الدول الوطنية العربية، إلا أن القدرات الكامنة لديها والفرصة التاريخية المتاحة أمامها يجعل دورها الإقليمي المطلوب، شرطاً موضوعياً لتنفيس الاحتقانات في الإقليم وملء الفراغات بأدوار إقليمية جديدة، تراعي مصالح غالبية دول المنطقة وتوازناتها. تأسيساً على ذلك ليس المطلوب إسناد دور إسرائيل الإقليمي عبر التسليم لها بدور الوكيل"بل بالتحديد وراثته وإظهار محدوديته ونقاط ضعفه. ولما كانت الحال كذلك، فمن المفهوم أن يتركز التحرك العربي للخروج من المأزق الإقليمي الراهن على إحدى قوى المنطقة الأساسية وهي تركيا، التي تعاني مثل الدول العربية من تغييب دورها الإقليمي وتتشارك معها في سقفها الدولي. ومن شأن التحرك العربي تجاه تركيا حتى تحت المظلة الأميركية! - إعادة إنتاج توازنات جديدة تعدل المشهد الراهن المطلوب تجاوزه بأي ثمن. ولا يفوت في هذا السياق ملاحظة أن هذا التحرك المطلوب والضروري للمصالح العربية لا يعني استعداء إيران أو التحريض على شن الحرب ضدها، لأن الحرب على إيران ستعيد توزيع أوراق اللعب الإقليمية على أطراف من خارج الشرق الأوسط الحالي. واستهداف واشنطنإيران عسكرياً سيدمر ما تبقى من توازنات في المنطقة، إذ إن تغيير النظام السياسي الإيراني بعمل عسكري أميركي سيدفع الهند إلى ملء الفراغ في منطقة الخليج وروسيا في منطقة بحر قزوين، وهو ما يستدعي قوى كونية جديدة إلى المنطقة ويهمش المصالح العربية أولاً والتركية ثانياً. وإذا كانت المخاوف الخليجية مبررة ومفهومة من إيران ذات السبعين مليوناً من السكان والطامحة لامتلاك التكنولوجيا النووية، فإن دخول الهند ذات البليون ومئتي مليون نسمة وصاحبة القدرات النووية الهائلة إلى الخليج بفعل الفراغ الناشئ سيجعلنا - نحن العرب - نتحسر على أيام"الخطر الإيراني". المطلوب الآن في موازاة التحرك العربي نحو تركيا، الضغط في اتجاه عدم المضي في الأجندة الأميركية ضد طهران إلى منتهاها وهو توجيه ضربة عسكرية لإطاحة نظامها السياسي، لأن تحديد التحركات الإقليمية في رقعة الشرق الأوسط الحالية - التي لا تتضمن الهند أو روسيا - هو الشرط الموضوعي لإنضاج التحرك العربي نحو تركيا. وإذا كانت الشواهد تشير إلى بداية فصل جديد من المواجهة الأميركية - الإيرانية في مجلس الأمن، ومن وراء ستار المفاوضات الإيرانية - الأوروبية، تبدأ على الأرجح بمحاولة فرض عقوبات اقتصادية على إيران للهبوط بوضعيتها القانونية إلى مستوى الدولة المعاقبة بموجب قرارات الشرعية الدولية"ومن ثم البناء على وضعيتها القانونية الجديدة لتغيير شكل نظام الحكم في طهران. لكل تلك الأسباب فالمطلوب تثبيت الأجندة الأميركية عند هذا الحد فقط، وعدم تجاوزه إلى أعمال عسكرية بسبب ما سيحدثه هذا التجاوز من آثار سلبية على الأدوار الإقليمية للدول العربية وتركيا، يتجلى في انتعاش دور"الوكيل الوحيد"لإسرائيل مرة أخرى. ولكن التجارب التاريخية لإدارة المحافظين الجدد في منطقتنا لا تبعث على التفاؤل، وسياسات الإدارة الأميركية الحالية هي عنوان"عقلها السياسي"المتصادم مع مصالح واشنطن ذاتها، فهي لم تهمش الأدوار الإقليمية لحلفاء واشنطن العرب والأتراك فقط، بل انحدرت بمكانة القوة العظمى الوحيدة في العالم إلى درجة القيام بمهمات القوى الإقليمية ومنازعة حلفائها فيها. * كاتب مصري.