ليس صحيحا التعامل مع مسألة حكومة الوحدة الوطنية من منطلق تنظيم العلاقة الداخلية بين القوى السياسية الفلسطينية فقط، بل يجب أن يكون ذلك في إطار فهم أوسع لآليات إدارة الصراع مع الاحتلال، وآليات إدارة العلاقات مع العالم، وبناء التحالفات لنصرة القضية الفلسطينية ومساندتها. فعلى الصعيد الداخلي هناك تأييد عريض من الغالبية الشعبية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، كآلية لتنظيم العلاقة بين القوى الفلسطينية وحماية الديموقراطية، ودرء خطر الحرب الأهلية، وضبط الفلتان الأمني وتكريس سيادة القانون الغائب. وتطور هذا التوجه بنضوج الإدراك الشعبي، ووعي القوى السياسية عبر التجربة القاسية بأنه ما من قوة منفردة تستطيع وحدها قيادة السلطة الفلسطينية، ليس فقط لأن أيا منها لم تحصل على الأغلبية المطلقة لأصوات الشعب الفلسطيني في الانتخابات، بل لأن خوض معركة التحرر الوطني بنجاح وتفعيل دور سلطة ما زالت تحت الاحتلال الكامل يتطلب تكاتف غالبية إن لم نقل كل القوى السياسية. ويتعزز هذا التأييد الشعبي بنفور الناس الفطري من الصراعات الحزبية والفئوية وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، وميلهم الدائم الى فكرة تعزيز الوحدة الوطنية. وقد شجع هذا الحس الشعبي الاتجاهات الوطنية الوحدوية والمخلصة لهدف النضال الوطني على التقارب حتى وصلنا إلى فرصة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وعلى الصعيد الخارجي فان أول مهمة تواجه هذه الحكومة، ستكون فك الحصار والعزلة المفروضة على الشعب الفلسطيني، وهو حصار اقتصادي ومالي وسياسي عملت إسرائيل على مراكمته ووصل ذروته باجتياح الأراضي الفلسطينية عام 2002 وتكرر بانتظام منذ ذلك الحين وجرى تعزيزه بعد الانتخابات الفلسطينية بمحاصرة الحكومة الفلسطينية بتواصل وإحكام غير مسبوقين. وكان الهدف المركزي للحصار الإسرائيلي نزع شرعية وعدالة القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل حريته واستقلاله، بل ونزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني وقياداته، ثم إلغاء وجود أي دور لممثليه حتى تتاح لإسرائيل فرصة"فرض حلها أحادي الجانب وتكريس نظام الضم والتمييز العنصري والاحتلال الدائم". من هذا المنطلق يجب تقييم حجم الإنجاز بكسر هذا الحصار الخانق من خلال فكرة حكومة الوحدة الوطنية، وذلك بعد جهد جهيد امتد منذ مطلع الأسبوع الثاني بعد الانتخابات الفلسطينية وحتى اليوم ونجح في فصل الموقف الأوروبي والروسي عن الموقفين الإسرائيلي والأميركي. فحكومة الوحدة الوطنية إن عملت بنجاح ومهدت لنشوء قيادة وطنية موحدة واستراتيجية موحدة ورؤية موحدة، ستنجح ليس فقط في فك الحصار المالي والاقتصادي وتوفير لقمة العيش الكريم للناس، بل ستكون قادرة على إعادة الشرعية والعدالة والتأييد لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حريته وكرامته واستقلاله. ولعل قيام حكومة وحدة وطنية خلال الأيام والأسابيع القادمة، يمكن أن يشكل مدخلا لتحقيق مجموعة من الإنجازات أهمها: أولا: فك الحصار المالي والاقتصادي عن السلطة الفلسطينية وإيقاف التدهور الاقتصادي الجاري، والذي وصل إلى حد انخفاض الدخل القومي للفرد الفلسطيني من 1600 إلى 600 دولار سنويا، والعنصر المركزي في هذه المعادلة ليس فقط إعادة التعامل المالي مع مؤسسات وهياكل السلطة الفلسطينية وعودة المساعدات الخارجية، بل حشد أدوات ضغط دولية كافية لإجبار إسرائيل على الإفراج عن عائدات الضرائب الفلسطينية والتي بلغت 500 مليون دولار حتى اليوم وهي تشكل 70 في المئة من الدخل المحلي للسلطة الفلسطينية، وهي عائدات تكفل دفع جميع المتأخرات من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية من دون استثناء. ثانيا: انتزاع زمام المبادرة السياسية من يد إسرائيل، بطرح مشروع المبادرة العربية كأساس لعقد مؤتمر دولي للسلام الشامل، أساسه إنهاء الاحتلال عن جميع الأراضي المحتلة والاعتراف بحقوق اللاجئين الفلسطينيين وتطبيق قرار المحكمة الدولية في لاهاي ضد جدار الفصل العنصري، ومن شأن ذلك الاستفادة من الفرصة المتاحة والناجمة عن فشل العملية الإسرائيلية في لبنان، لإغلاق الباب نهائيا في وجه الحلول الجزئية والانتقالية والأحادية وبناء قوة تضامن عربية ودولية فعالة تطالب بتحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال ونظام القمع العنصري. ثالثا: بدء عملية تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية على أساس دخول كل القوى السياسية تحت مظلتها وإعادة بنائها كممثل شرعي للشعب الفلسطيني من خلال الممارسة الديموقراطية والمشاركة الشعبية في الداخل و الشتات، وتحريرها من قيود البيروقراطية و الرتابة والعزلة التي تعيشها، فيما يمكن أن يمثل تجسيدا لفكرة القيادة الوطنية الموحدة، والإرادة الموحدة للنضال والمقاومة الفلسطينية، وإعادة إشراك أبناء الشعب الفلسطيني في الخارج والذين جرى تهميشهم منذ توقيع اتفاقية اوسلو عن قضية شعبهم. رابعا: البدء بعملية الإصلاح الشامل في مؤسسات أجهزة السلطة الفلسطينية ورفع مستوى أدائها وإزالة كل أشكال سوء الإدارة فيها، وتكريس مبدأ"المواطنة"وحق المواطن كبديل للمحسوبية والواسطة الشخصية والفصائلية وكبديل لنظام الزبائنية السياسية الذي تكرس في المجتمع الفلسطيني. لقد صوت الشعب الفلسطيني للإصلاح والتغيير وإزالة الفساد، ولكنه لم ير تغييرا ولا إصلاحا حقيقيا بل غرقت مؤسسات السلطة الفلسطينية في صراعات واستقطابات فصائلية، تعيق عملية الإصلاح، ولعل حكومة وحدة وطنية تضع في مقدمة أهدافها رفع مستوى أداء مؤسسات السلطة ومهنيتها وإصلاح بنيانها، تكون قادرة على تحقيق ما يطالب به المواطن الفلسطيني. خامسا: إنجاز عملية تبادل الأسرى والتهدئة المتبادلة التي تقوم على قاعدة الالتزام المتبادل بوقف العمليات بما يشمل التزام إسرائيل بوقف كل اعتداءاتها في غزة والضفة الغربية بما فيها القدس، ووضع قضية الإفراج عن كل الأسرى والأسيرات على رأس اهتمامات وجدول أعمال الحكومة المقبلة. ومن المتفق عليه في هذا المجال أن ضمان الإفراج عن النواب والوزراء المختطفين كافة هو عنصر أساسي في إمكانية نجاح تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. إن حكومة الوحدة الوطنية ليست وصفة سحرية لحل كل المشاكل، ولا تراود أي منا الأوهام بأن الطريق سيكون سهلا، ولعل المقاومة الشرسة التي بدأت على الصعيدين المحلي والدولي ومن قبل إسرائيل للفكرة هي الدليل على مدى الصعوبات التي تواجهنا، غير أن طبيعة الذين يحاولون الآن عرقلة قيام حكومة الوحدة الوطنية لأنهم يخشون أن تؤثر على مصالحهم وامتيازاتهم أو فكرهم المتعصب هي كلها دليل إضافي على صحة الفكرة و الحاجة الملحة للإسراع في تطبيقها. إن البديل المحتمل في ظرفنا الآني لحكومة الوحدة الوطنية هو الفوضى والضياع والتدهور الاقتصادي وانهيار السلطة بكاملها، وتشتت طاقات النضال الوطني في وضع نحن أحوج ما نكون فيه الى وحدتنا. وبالمقابل فإن التوافق على الحكومة يكرس النظام الديموقراطي الفلسطيني واحترام القانون الأساسي كمنهج للحياة السياسية باعتباره خيارا فلسطينيا استراتيجيا لا رجعة عنه وسبيلا لتقوية وتمكين البنيان الوطني واستقلالية القرار الفلسطيني وحمايته من الضغوط الخارجية سواء التي تستهدف دفعنا للتنازل عن حقوقنا والاستسلام أو تلك التي تريد استغلال القضية الفلسطينية في إطار الصراعات الإقليمية والمحاور. لقد استقبل الشعب الفلسطيني بالترحاب والأمل التقدم نحو حكومة الوحدة الوطنية، وواجب الجميع الآن منع الدوافع الفصائلية الضيقة من إحباط هذا الأمل. * أمين عام المبادرة الوطنية وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني