لا تطل سورية على النروجيين من بوابة ذاتية ولا من البوابة الرسمية، بل من الآفاق الحرجة المتعلقة بحقوق الإنسان والمعارضة في هذا البلد الاسكندنافي الحساس لهذه القضايا او من عيون"أعدائها"وفق ما يقترحونه من اجندة سياسية. وباعتبار ان باريس تحدق في دمشق بعيون لبنانية وواشنطن تتأملها من وراء النوافذ العراقية وإسرائيل من منظور فلسطيني، يمكن تصور حال"الصورة السورية". وجاء موضوع حرق السفارة النروجية في دمشق قبل مدة، ليزيد الصورة تشويشاً، من الصعب على أهل هذا البلد فك رموزها. البحث عن السلام"ماركة مسجلة"للدبلوماسية النروجية. وفي خضم البحث الخالد عن تسوية النزاعات في العالم، تبدو أوسلو كمن يمد يده اليمنى الى العالم عبر المساعدات التنموية الى الدول الفقيرة. وفي الوقت نفسه يضرب بيده اليسرى حول نفسه جدرانا من العزلة كي لا يصل أحد من المهاجرين 2.4 في المئة من السكان،هم مسلمون الى عقر داره. وجاءت أزمة السفارات لتعجن الميل الى العزلة بنزعات عنصرية عدائية. يريد أهالي هذا البلد، الذي تكاد لا تغيب عنه الشمس في شهري الصيف، إبعاد العالم على مسافة ذراع من وطنهم الأم. غير انهم مهووسون بدعم الأممالمتحدة. ولا يكاد نزاع من دارفور الى الشرق الأوسط ومروراً بتيمور الشرقية الاّ ولپ"مبعوث نروجي"يد فيه او بصمة في تسوية نزاعاته. هنا، لائحة المبعوثيين الدوليين تطول: نائب الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الإغاثة الإنسانية يان ايغلان، مبعوث الأمين العام لتنفيذ القرار 1559 تيري رود - لارسن، وممثل الأمين العام في لبنان غير بترسون، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الى أفريقيا شيل مغنابوتفيك، رئيس الوزراء السابق. بلد ليس منحازاً، لكنه حيادي في النزاعات على رغم كونه عضواً في حلف شمال الأطلسي عندما قذف هذا البلد بسبب الاحتلال النازي بين عامي 1940 و1945 الى أحضان"ناتو"في نهاية العام 1949. وكانت النروج خضعت للسويد الى العام 1814، عندما نالت الاستقلال وأقرت دستورها الجديد. غير ان السويد عادت وأخضعت النروج مع إبقاء دستورها. وفي العام 1905، ادى تنامي الشعور الوطني الى استفتاء أسفر عن الاستقلال. للنروج سمعة دولية حسنة بتسهيلها عبور السفن والتجارة بفضل جيرتها للمياه بحدود تصل الى 25 ألف كيلو متر مقابل 2.5 ألف كيلومتر من الحدود البرية لكنها تريد ان تطل على العالم من وراء المحيطات وان تحمي منتجاتها الزراعية.عضو في اتفاقية"شنغين"للتأشيرات الى الاتحاد الأوروبي، لكنها طوت صفحة الانضمام إليه بعد استفتائي 1994 وپ1972 عندما انحاز النروجيون الى"الحياد الإيجابي"على حساب الانضمام. انه تفاهم تاريخي بين الحداثة الدولية والعزلة التقليدية. ومن"التناقضات"الأخرى، التي تطرح على زائر النروج الفرق بين عنوان الحكومة الائتلافية وسياستها. إذ يقول رئيس الوزراء النروجي الأسبق كور فيلوك ان انتخابات ايلول سبتمبر الماضي لاختيار 169 نائباً أسفرت عن حكومة ائتلافية بين"حزب العمل"و"حزب الوسط"و"حزب اليسار الاشتراكي"، وان الحكومة"تقاد بحزب يساري، لكن جوهر اليسارية قليل جدا". وكان"العمل"قبل الائتلاف مع"اليسار الاشتراكي"مقابل ترؤس يانس ستو تينبرغ الوزارة وتسلم يوناس غار ستورا وزارة الخارجية، مقابل تسلم رئيسة"اليسار"كريستن هالفورشنو وزارة المال. ويقول الصحافي العربي العامل في مؤسسات نروجية اشرف الخضراء :"باتت النروج حليفة قوية لأميركا بصرف النظر عن الانتقادات. لذلك يبدو التناقض واضحاً في بعض الأحيان، كما حصل عندما طالبت وزيرة المال بمقاطعة البضائع الاميركية، فسارع رئيس الوزراء الى مهاجتمها مطالباً بعدم الخلط بين موقفي حزبها والحكومة". لكن النروج أبقت على الخطوط مفتوحة مع"جميع الأطراف"، وكانت فاجأت الكثيرين بإحداثها اختراق اتفاق أوسلو في العام 1993 بفضل علاقتها التاريخية مع إسرائيل ومبادرتها الى استجابة طلب الرئيس الراحل ياسر عرفات لفتح اقنية باعتبارها صديقة الغرب وإسرائيل، فنجح رود - لارسن في جمع يوسي بلين واحمد قريع ابو علاء لإنجاز اتفاق أوسلو، ولا تزال تعيش على أطلال هذا"الإنجاز". وآخر حلقات هذا البحث عن السلم العالمي، استضافة أوسلو نحو 50 شخصية من الفاعلين في حل النزاعات الدولية في منتجع قرب العاصمة. جلس هؤلاء مع مسؤولين أوروبيين وخبراء وصحافيين في نهاية حزيران يونيو لبضعة ايام في"عصف فكري"بحثاً عن حلول في ما يعرف بپ"المسار الثاني". ومثلما ساهمت النروج في إقناع عرفات لإجراء التحول، تأمل عبر"الانخراط"بدفع"حركة المقاومة الإسلامية"حماس الى السير على خطوات الرئيس الراحل. ولم تكن صدفة ان أعلنت الخارجية النروجية في كانون الثاني يناير الماضي، أي قبل الانتخابات الفلسطينية، انها لن تلتزم سوى قوائم الأممالمتحدة لپ"المنظمات الإرهابية"وليس القائمة الأوروبية والأميركية، لان ذلك مهد الأرضية عبر استقبال وزير شؤون اللاجئين عاطف عدوان والنائب يحيى العباتسة. ويقول مبعوث النروج الى الشرق الأوسط سفين سفيه ان"الموقف الرسمي هو ضرورة التزام"حماس"متطلبات اللجنة الرباعية نبذ العنف، الاعتراف بإسرائيل، وقبول الاتفاقات. لكن لدينا سياسة لاستقبال حركات سياسية من كل الأطراف. أبوابنا دائماً مفتوحة. تعرضنا للنقد من إسرائيل، لكن نريد ترك الأبواب مفتوحة لاعتقادنا ان الانخراط هو الحل لإحداث تغيير"، قبل ان يشير الى ان اللقاءات مستمرة مع"حماس"، لكن ليس بالمستوى السياسي وان"هذه السياسة لم تمنعنا من التواصل مع إسرائيل وأميركا، مع انهم أبلغونا انهم لا يريدون منا ان نشرعن حماس". ويعيد الباحث من"معهد السلام في أوسلو"اور هوفنديك جذور التعاطف مع الشعب الفلسطيني الى مجزرة صبرا وشاتيلا"حيث جرى التحول بعد تعاطف تاريخي مع إسرائيل منذ تأسيسها". ويضيف :"لكن، لا يمكنها ان تقف ضد إسرائيل. وللحفاظ على الدور الإيجابي، لا بد الا نقطع مع إسرائيل". ولا يمكن النظر الى هذا الإدمان على البحث عن تسويات، بعيداً عن الاسترخاء الاقتصادي الذي يشكل العنصر الثاني للسياسة الخارجية. ويوضح مدير"المعهد النروجي للشؤون الدولية"سيفير لودغيرد ان"الاستراتيجة النروجية تقوم على اللحاق بمصادر الطاقة وخصوصاً النفط والغاز". وبعد القفزة النفطية في الستينات، تحولت النروج الى مصدر كبير للنفط، فتأسس"صندوق النفط الحكومي"الذي بلغت مدخراته 150 بليون دولار أميركي، باعتبار ان الاحتياطي النفطي يبلغ نحو 10 بلايين برميل. وبعد تراجع في النمو الاقتصادي الى اقل من نصف في المئة في العام 2003، ارتفع الى 3.7 في العام الماضي، عندما بلغ الناتج المحلي الإجمالي 246.9 بليون دولار، فكانت حصة الفرد تصل الى 42.3 الف دولار أميركي تبلغ قوة العمل 2.4 مليون ومعدل البطالة 4.2 في المئة ومعدل التضخم 2.1 حسب أرقام 2005. إذاً"الخير صديقنا"، كما يقول رئيس الوزراء الأسبق. غير ان النروجيين الذين تبلغ نسبة الأمية بينهم صفراً"قلقون على مستقبلهم الاقتصادي"، بحسب باحثين، ذلك على رغم ان كل هذه الثروة موزعة على 4.6 مليون إنسان ينتشرون على مساحة 324.22 ألف متر مربع، وان معدل النمو السكاني لا يتجاوز 0.38 في المئة. ربما لان معدل العيش يصل الى 79.5 في المئة! سورية لدى البحث عن سورية بين نزعة السلم الأبدي والازدهار الاقتصادي والانكفاء الشعبي عن الغرباء، تبدو الصورة مفاجئة. ويقول فيلوك ان"سورية غائبة عن النقاش العلني"وأنها عندما تحضر فإنها تأتي من ملفات"حقوق الإنسان وغياب المعارضة"، الأمر الذي يوافق عليه الباحث هوفنديك، اذ يقول ان أبناء جلدته"لا يعرفون الكثير عن سورية سوى انها دولة شمولية متطرفة". لكن السفير سفيه، الذي عمل سفيراً في دمشق قبل تسلمه منصبه الجديد، يعزو ذلك الى ان"سورية ليست مقدمة الى النروجيين لا من قبل السوريين ولا من قبل الحكومة النروجية، بل من قبل أعدائها"، مع العلم ان لا سفارة لسورية في أوسلو. وعندما جاء موضوع حرق السفارة في شباط فبراير الماضي، فاجأ النروجيين، مثلما فاجأ السوريين. وعلى الرغم ان الإنسان العادي يجد صعوبة في فك رموزه وفهم أسباب حرق علم بلاده باعتبار انه ليس معتاداً على ذلك كما الحال مع الأميركي، فإن الأمر مفهوم بالنسبة الى المثقفين والخبراء في أوسلو. ويقول مدير"المعهد النروجي للشؤون الدولية"ان"حرية التعبير ليست مطلقة. أحياناً يجب ان تأخذ في الاعتبار منعكسات ما تقول في العالم المتعولم". ويضيف ان"حرية التعبير مقدسة في البلدان الاسكندنافية، لكن على النروجي ان يشعر انه يجب ان لا يكون مثل"الفيل في دكان صيني". ويقول آخر:"لم يكن صدفة حرق سفارات النروج، حصل في الدول الأكثر نقدا للسياسة الاميركية". وعلى الرغم ان النروج لا تزال تنتظر التعويضات المالية البالغة نحو 1.2 مليون دولار أميركي، فان التعاون مستمر على المستويين السياسي والفني. ويقول مارك تايلور مدير"معهد الدراسات الدولية"فافو، الذي كان يديره رود - لارسن قبل انتقاله الى الأممالمتحدة، ان باحثي المركز يقومون بإجراء دراسات في سورية بكلفة 12 مليون كرون، بالتعاون مع الحكومة السورية، علماً ان قيمة المساعدات التنموية الإجمالي تصل الى 16 بليون كرون الدولار يساوي 6.4 كرون. وباعتبار ان"فافو"يهتم بالدول في المراحل الانتقالية من النموذج السوفيتي الى النموذج الحديث، يوضح تايلور :"ان الأرقام حساسة، لذلك نركز على مساعدة الحكومات على مواجهة التحديات لكننا لا نتدخل في تحديد الأولويات".