في عام 81 ه بدأ عبدالرحمن بن الأشعث قائد الجيوش الأموية في وسط آسيا ثورته على الحجاج بن يوسف ثم على الخليفة عبدالملك بن مروان، واستمرت هذه الثورة ثلاث سنوات انتهت بمقتل ابن الأشعث وعشرات الآلاف من أتباعه. لم تكن ثورة ابن الأشعث شبيهة بأية ثورة واجهها الحجاج وعبدالملك بن مروان، فقد خرج مع ابن الأشعث كل فقهاء البصرة وكثير من فقهاء الكوفة، حتى كانت للفقهاء كتيبة خاصة في جيش ابن الأشعث، وكان شعارهم يومئذٍ:"يا لثارات الصلاة". وأتت نتيجة الحرب مخيبة لآمال هؤلاء الفقهاء، إذ انتصر الحجاج في الحرب وتتبعهم وقتل منهم جمعاً غفيراً، ولم تردّ هذه الثورة الحجاج عن ظلمه بل زادته طغياناً وعتواً. لقد كانت ثورة ابن الأشعث، التي سميت"فتنة"في ما بعد، لحظة فارقة في تشكل النظرية السياسية السنية، إذ استقرّ في وعي فقهاء أهل السنة أن المعارضة المسلحة ليست وسيلة صحيحة لمواجهة الظلم وتفشي المنكرات الدينية والدنيوية، وذلك بسبب انعدام الأمن الذي حصل وقت"فتنة"ابن الأشعث، ثم ما تبع ذلك من مفاسد، فقد انتقم الحجاج بقتل جمع كبير من أتباع ابن الأشعث وفيهم الفقهاء، ثم أسرف في الظلم من دون خوفٍ من أحد. قال أيوب السختياني، مبيناً حالة الندم التي سادت الأوساط الفقهية السنية بعد مشاركتها في ثورة ابن الأشعث:"ما صُرع أحد مع ابن الأشعث إلا رُغبَ عن مصرعه، ولا نجا منهم أحد إلا ندم على ما كان منه"، لذا فقد استقر"القول"في الفقه السني، على تحريم الخروج بالسيف على الإمام الظالم والفاسق، وصار"الأمن"مقدماً على"العدل"، ومن مقولات أهل السنة الدالة على هذا المعنى خير دلالة:"والٍ غشوم خير من فتنة تدوم". لقد أصبح من وظائف الفقهاء بعد ذلك أن يساعدوا في الاستقرار السياسي، وأن يحافظوا على"الأمن"مهما كان الثمن المبذول في مقابل ذلك. ولا نكاد نجد نشوزاً عن هذه القاعدة إلا عند الزيدية والخوارج، وهما المذهبان اللذان يقدمان"العدل"على"الأمن". أما الشيعة الاثنا عشرية فقد كان موقفهم قريباً من موقف فقهاء السنة، فبعد مقتل الحسين بن علي أيقن الشيعة بعدم جدوى المواجهة العسكرية مع السلطة القائمة، ومالوا إلى العمل السري، وبعد اختفاء محمد بن الحسن العسكري ؟ ذهب فقهاء الشيعة إلى تحريم حمل السلاح ضد السلطة القائمة، وذلك حتى يخرج المهدي، ورووا في ذلك أثراً أن كل راية تخرج قبل راية المهدي فهي راية ضلالة. لقد لزم فقهاء السنة والشيعة كمؤسستين، لا كأشخاص الحياد أمام السلطة السياسية، وكان حياد فقهاء السنة حياداً إيجابياً فهم يقولون بشرعية الدولة، أما فقهاء الشيعة فحيادهم السلبي كان نتيجة قولهم بعدم شرعية الدولة، لكن هذا الخلاف كان نظرياً فهو لم يمنع المواطنين الشيعة على مر العصور من المشاركة الفاعلة والبناءة في الدولة وخدمتها. والملاحظ أن الحركات الأصولية التي ظهرت في العالم الإسلامي في القرن الماضي داعية إلى إقامة الدولة الإسلامية الحقة، أو دولة الشريعة قامت في صلبها على أكتاف أشخاص من خارج المؤسسة الدينية السنية التقليدية المودودي، حسن البنا، سيد قطب، وغيرهم، بل لقد أخذت هذه الأصوليات على عاتقها مهمة إضعاف المؤسسة الدينية بتهمة مداهنة السلطة السياسية وعدم الاستقلالية وغير ذلك من التهم، الأمر الذي انتهى بتهميش هذه المؤسسة، ثم تبع ذلك أن استطاع الأصوليون اختراق الكثير من المؤسسات الدينية التقليدية. ولكن الاختراق الأعظم والأخطر كان على الجانب الشيعي، إذ تتربع اليوم شخصية أصولية السيد علي خامنئي على أعلى مرجعية دينية في إيران، وهو منصب"الولي الفقيه"، فالسيد خامنئي معروف بنشاطه الأصولي أكثر من المعرفة بنشاطه الفقهي، ولا يمكن إغفال أنه أول من ترجم كتب سيد قطب إلى الفارسية، وطبعها الشيخ رفسنجاني، في ستينات القرن الماضي. وشهدت نهايات القرن المنصرم وبدايات هذا القرن تغيراً في وظيفة الفقهاء، إذ بدأوا نشاطاً سياسياً راديكالياً، ويبرز هذا التغير في الفقه الشيعي مع تزايد الجدل حول ولاية الفقيه، ثم الثورة التي تزعمها الإمام الخميني ونتجت منها دولة دينية تحكمها العمائم في طهران. وإن كان الجدل حول مشروعية خطوة الخميني ما يزال دائراً في الأوساط الدينية الشيعية. إن هذه المقدمة التاريخية الطويلة هي وسيلتنا التي نتوصل بها لفهم حركتين سنيتين خرجتا عن السنن المعروفة للمؤسسة الدينية، وهما حركتا طالبان والمحاكم الإسلامية في الصومال، ويجمع الحركتين أنهما في الأصل نتاج المؤسسة الإسلامية التقليدية، وليستا وليدتي الحركات الأصولية، فطالبان نتاج المدارس الإسلامية في باكستان التي ورثت الفقه الحنفي في وسط آسيا، أما المحاكم الإسلامية فهي وريثة الفقهين الحنفي والشافعي، وأكثر علمائها من خريجي الأزهر الشريف قلعة الإسلام السني التقليدي، وبينهم عدد من السلفيين خريجي الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة، وانضم إليهم بعض المقربين من الجماعات الأصولية وتنظيم القاعدة. لكن الغالب عليهم أنهم ليسوا كذلك. لقد كانت العلاقة بين تنظيم"القاعدة"وحكومة طالبان مشوبة بالتوتر، فطالبان لا تثق بقيادات"القاعدة"، أما"القاعدة"فكانت تنظر إلى طالبان على أنها ميليشيا جاهلة متشددة لا تملك رؤية سياسية كما في بعض الوثائق التي عُثر عليها في أفغانستان. لكن بسبب الضغط الأميركي - الدولي تمت محاصرة طالبان كما ابتعدت عنها الحكومات الإسلامية، ما جعلها تتحالف مع"القاعدة"، ويتم خسرانها إلى الأبد. وللأسف فلم تستفد أميركا ولا المجتمع الدولي من تجربة طالبان، وها هم يكررون الخطأ نفسه مع حكومة المحاكم الصومالية، اذ بدأت عملية محاصرتها وتهميشها وفي الوقت ذاته بدأت"القاعدة"وعلى لسان أسامة بن لادن بمغازلة هذه الحكومة، ولذا فإذا لم يتم تدارك الأمر فسنشاهد سيناريو طالبان يتكرر على الأطراف الجنوبية الغربية من العالم العربي، في المنطقة المشرفة على مضيق باب المندب، وهو أمر له تأثيره السلبي وتُخشى عواقبه، وهذا ما يتطلب من السعودية ومصر لثقلهما الديني أن يبادرا بالعمل على استيعاب حكومة الصومال، بدلاً من تهميشها وتركها نهباً للحركات الأصولية، لتمارس عليها ومن خلالها تجاربها المدمرة. بقي علينا أن نجيب عن سؤال: لماذا خالف الفقهاء التقليديون دورهم وقاموا بقيادة مليشيات دينية تسعى إلى السلطة وليس الضغط عليها؟ والجواب على هذا السؤال هو: أنه وكما سبق فقد لجأ الفقهاء إلى الحياد السياسي رغبة في"الأمن"وخوفاً من"الفتنة"، لكن في حالتي أفغانستانوالصومال كان الواقع هو"الفتنة والخوف"وليس الأمن، ولهذا لم يعد للحياد أي معنى وصار تحرك الفقهاء ضرورياً لتحقيق الأمن، وهذا لا يخالف نظريتهم في الفقه السياسي. * كاتب سعودي