"الانسان صنيع نفسه، فما دام لك عقل سليم يفكر وقلب صحي ينبض بالحياة، اذاً، لا غبار عليك، اقتحم الحياة، وارادتك هي المفتاح". هذه العبارة التي خطتها شونم كريم 18 عاماً على الصفحة الأولى من دفتر يومياتها اتخذت منها، كما تقول"علامة هادية على الطريق الذي صممت ان أمشيه الى النهاية، متجاوزة، وعابرة، ما يواجهني من عوائق سواء في الواقع أو من الجسد، فلا أدع شيئاً منها يحول بيني وبين ما رسمت لنفسي من أهداف وطموحات". شونم التي ولدت بساق يمنى أقصر من اليسرى، تستعد هذه السنة لمتابعة دراستها الجامعية، بعد أن أنهت المرحلة الثانوية بامتياز، تؤكد:"لم أفكر في أن تكون ساقي سبب حرج لي"، وتسأل:"لماذا الحرج؟ ألم أكمل دراستي الثانوية التي أنهيتها بتفوق وأنا في هذه الحالة وتخطيت مراحل كثيرة وأشواطاً مهمة في حياتي بينما لم يستطع غيري من الطلبة الأسوياء فعل ذلك؟". وتقدم شونم وهي تستعرض وضعها، عدداً من الأسئلة المفارقات التي يمكن بالفعل ملاحظتها في واقعنا:"هل كل الأسوياء جسدياً هم دائماً أناس صالحون ومنتجون في مجتمعاتهم؟ وهل تسبب الإعاقة الجسدية الفشل لصاحبها أم انها قد تكون دافعاً للنجاح؟ أم ان الكثير ممن رزقوا بالصحة والجسد والعقل السليم لم يكونوا غير بؤر فساد في مجتمعاتهم وحجر عثرة لغيرهم؟". من جهتها، تجد فيان سعيد 38 سنة الباحثة الاجتماعية في كلية الآداب في جامعة صلاح الدين ان"معظم طلبة السنة الأولى للدراسة الجامعية من المعوقين جسدياً لا يعانون الكثير في مسألة الاندماج مع أقرانهم الأسوياء جسدياً"، لأنهم" كانوا أصلاً تلامذة مدارس قبل ان يبدأوا مرحلتهم الجامعية، ولم يُحملوا من البيت الى الجامعة مباشرة، بل دخلوا المجتمع وعرفوا الحياة الطالبية وان لم تكن مختلطة في غالبيتها". وتضيف:"ما يزيد تكيفهم السريع مع الأجواء هو مساعدة بقية الطلبة لهم، والنظر اليهم بتعاطف وصداقة". وتتابع:"من خلال ملاحظاتي للعلاقات بين الصبايا والشباب، وخصوصاً بالنسبة الى الطلبة المعوقين وأقرانهم الأسوياء أجدها أكثر تلقائية وطبيعية من علاقة الطلبة الأسوياء ببعضهم بعضاً". لكنها، من جانب آخر، تعتقد بأن"حظوظ الطلبة المعوقين جسدياً في إقامة العلاقات العاطفية أقل من غيرهم، خصوصاً بالنسبة الى الفتيات، وربما لهذا السبب يكون تعاملهم بتلقائية أكبر". وتذهب سعيد الى ما هو أبعد فتؤكد ان الإعاقة الجسدية، وپ"التاريخ شاهد على ذلك، لم تكن يوماً عائقاً فعلياً أمام أصحاب الطموحات والمواهب والإرادة القوية، ودائماً كان هناك صراع داخلي يعيشه الفرد وتكون الغلبة فيه، في غالب الأحيان، للجزء المتعلق بالثقة بالنفس والقناعة والإصرار على بلوغ الأهداف التي يُراد تحقيقها، والأديب الراحل طه حسين"قاهر الظلام"خير دليل على ذلك، اذ لم يزده فقدانه البصر غير التصميم على النجاح والوصول الى ما افتقر اليه كثيرون من أبناء جيله من الكتاب أيضاً على رغم أن حاجته الى البصر لا تقل عن حاجته الى القلم للكتابة". وقد تكون الإعاقة أحد أكثر الأسباب دفعاً الى تحقيق الأفضل، وهو ما يؤكده كوفند بابان 22 سنة الطالب في السنة الثالثة في كلية العلوم. وهو شخص سليم لا يحمل أي إعاقة جسدية، عايش زملاء معوّقين جسدياً أو ذوي حاجات خاصة، ولمس تفوقهم الواضح على الآخرين، اذ"كانت الطالبة الأكثر تفوقاً وتميزاً في الدراسة في كليتنا مقعدة تتحرك على كرسي متحرك". ويؤكد الأساتذة أنفسهم التفوق الدراسي الذي يتميز به معظم الطلبة المعوقين. ويعتقد سليم لوقا الأستاذ في كلية التربية، قسم علم النفس، بأن"الطلبة المعوقين يحاولون تعويض النقص في أجسادهم في جوانب أخرى، العقلية تحديداً، فيكونون فيها الأكثر تفوقاً". جوان سركوت 20 سنة طالبة في السنة الثانية في كلية الهندسة، حكم عليها عيار ناري أصابها في عمودها الفقري وهي صغيرة، بأن تقضي بقية حياتها مقعدة. هي الأكثر تفوقاً وشعبية بين طلبة صفها، كما يجمع عليه زملاؤها خصوصاً الشبان منهم. فهي بحسب زميلها رامي توما 21 سنة"السباقة دائماً الى دعم مواقفنا وان لم تشاركها بقية زميلاتها ذلك". ويتحدث زميل آخر لها كيف يتنافس طلبة صفها على حملها مع كرسيها المتحرك لإنزالها من السلم او إصعادها الى الصف. ومثل جوان، هناك ياسمين وديمن وكابان ومحمد وسرتيب، طلبة غير مسؤولين عن عاهاتهم، ولدوا بها أو تولدت لهم بفعل عوامل خارجة على إرادتهم، لكنهم أدركوا انه أمر واقع لا مفر منه، وربما لم يعتقدوا ان واقعهم الذي اعتبروه يوماً ما أليماً سيكون سبب تفوقهم وشعبيتهم لكونهم الأبرز بين زملائهم. ويصف نشوان منصور 24 سنة طالب السنة الأخيرة في كلية الطب"حرجه"عندما أوقف زميلة له بهدف تحيتها والسؤال عنها وكانت برفقتها فتاة صغيرة الحجم فاعتقدها اختها وراح يلاطفها بكلمات توجه عادة الى الأطفال، فما كان منها الا ان استدارت نحوه بغضب ليكتشف ان الفتاة التي اعتقدها طفلة صغيرة هي زميلة له في الكلية ذاتها. ويؤكد رشوان محمود أستاذ علم النفس، ان العقول لا تخضع لحالات الجسد العارضة،"والا لكنا في خبر كان".