على رغم ان مصطلحي الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاستراتيجية يستخدمان استخداماً خاطئاً للدلالة على الشيء نفسه، فإنه ينبغي أن يكون واضحاً أن العلاقات مع العالم العربي - الإسلامي تمثل بالنسبة الى إيطاليا والاتحاد الأوروبي مسائل تتعلق بالأمن بالإضافة الى مصالح اقتصادية وروابط تاريخية - ثقافية. وتفرض أحداث المنطقة نفسها خيراً كانت أم شراً على أوروبا في شكل أكبر مما تفرض نفسها على أميركا، ومع هذا يبدو أن أوروبا لا يزال ينقصها خط سياسي واضح. ليس هذا فحسب بل ينقصها كذلك جهاز تحليل مقبول يتمحور حوله التنسيق مع الولاياتالمتحدة والقوى الأخرى ذات المصلحة. وتدل الأحداث الأخيرة في إيرانوالعراق وأحوال السلطة الفلسطينية على الاهتمام غير الملائم الذي يبديه الاتحاد الأوروبي بجغرافيته الاستراتيجية. فعلى جبهات الأزمة الثلاث لم يتم اتخاذ موقف سياسي مقنع، والأخطر من هذا إنه لم يتم التوصل الى فهم وتقويم مشترك وجاد بين الدول الأعضاء. وبالنسبة الى العراق فقد أدى الانقسام الذي حدث داخل الاتحاد الأوروبي حول ملاءمة العمل العسكري الى منع أوروبا من أن تلعب بعد التدخل ذلك الدور الذي كان يمكن أن تفرضه عليها معارفها وعلاقاتها حتى تمنع الولاياتالمتحدة من أن تقترف جزئياً أخطاءها في التحليل والتقويم المتعارف عليها اليوم عموماً، والتي كانت السبب في انفجار الانتفاضة التي لم يتوقع أحد أبعادها بعد تظاهرات الفرح الشعبية بسبب التحرر من رجل هناك اعتقاد عام انه كان استبدادياً دموياً. وحدث الشيء نفسه بالنسبة الى إيران. فقد منع الانقسام الذي جاء نتيجة قرار بريطانيا وفرنسا والمانيا بأن تتشكل منها مجموعة للتفاوض حول المسألة النووية وهي ما تعرف باسم E3، منع الاتحاد الأوروبي من أن يقدم قدراته الكاملة في الفكر والعمل لنزع فتيل عناصر الخلاف في حينه والتي أدت في ما بعد الى انفجار أزمة تصعب محاولة الخروج منها. وكذلك الأمر أيضاً في أراضي الحكم الذاتي للسلطة الفلسطينية. فلم يقم الاتحاد الأوروبي بعمل مقنع وهو الذي حض الفلسطينيين أولاً على إجراء انتخابات تشريعية حرة نزيهة لكي لا يعترف بعد ذلك بنتيجتها. وهذا يدفعنا حقاً للتساؤل عن معنى تقديم موارد بشرية ومالية كبيرة من جانب الاتحاد الأوروبي باسم القيمة الاستراتيجية للسلام في المنطقة ثم يخرج من الساحة ويبتعد عنها عندما كان ينبغي عليه أن يعمل على دعم وجهات نظره ومصالحه دعماً أفضل، إضافة الى الاعتراف بتعاونه ومساعدته الكريمة. واذا كان يجب استخدام الحوار كديبلوماسية وقائية ولدعم الأمن السياسي فيجب أن نأخذ في الاعتبار أن الهدف منه قد غاب وان مراجعة طرق اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي تفرض نفسها حتى يحدد في شكل أفضل آليات التدخل والحصول على عائد أفضل وأضمن من المعلومات ومن الثقة في أجهزته البيروقراطية الضخمة الباهظة التكاليف. وبالنسبة الى مسألة إيران فقد خاضت الدول الأوروبية الثلاث لوقت طويل للغاية في مفاوضات نووية بحتة على رغم أنها كان لا بد لها من أن تعرف أن ذلك السبيل سيؤدي بالضرورة الى ان تطلب إيران ضمانات دولية لتزويدها بوقود نووي وهو ضمان لم تكن الولاياتالمتحدة مستعدة لتلبيته. والمعلومات التاريخية واضحة في هذا الشأن. فقد أوقفت الولاياتالمتحدة وفرنسا والمانيا التعاون النووي مع إيران بعد خلع الشاه على يد آية الله الخميني. كما أن ايران لم تحصل على أي نتيجة ذات معنى من مباحثاتها التي استمرت ست سنوات داخل اللجنة المشتركة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فعلى العكس كان من الضروري نقل المفاوضات الى أشكال من التعاون الإقليمي تهدف الى تحديد ظروف أمنية بين الدول المتجاورة يجري في إطارها حل مسألة استخدام الوقود النووي استخداماً سلمياً. ومن المؤكد أن قلق دول الخليج وبخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات له ما يبرره وهو من حقها تماماً، وهو قلق يرتبط بدرجة كبيرة بالوصول الى حل عادل للأزمة الخطيرة التي يعيشها العراق وبما يحفظ له وحدة أراضيه واستقلاله السياسي وهو حل يمكن أن تساهم فيه إيران بدور مهم. ولا شك في أن لإيران دوراً مهماً في المنطقة، إلا أن هذا الدور لا ينبع من الأسباب الخطأ التي اهتمت الصحافة بذكرها في شكل كبير. فلا توجد في الواقع دلائل تؤيد إخلاص الشيعة في العراق وفي دول أخرى مثل البحرينلإيران أكثر من إخلاصهم الوطني للبلاد التي ينتمون اليها بصفتهم من مواطنيها أو رعاياها. وعلى رغم سوء معاملة صدام للشيعة وممارسته التفرقة معهم الا انهم شاركوا مشاركة إيجابية في الحرب ضد إيران وتحملوا تضحيات ضخمة فيها. وفي السابق حارب الشيعة بإخلاص الى جانب العثمانيين ضد البريطانيين في ثورة 1920 التي جعلت القوات البريطانية تعدل عن ضم العراق اليها، كما انه لم يحدث أبداً ان تورط ممثلون للشيعة في مؤامرات وفتن في 1936، 1941، 1963، 1968. ومن الممكن وقد يكون من الجائز أن يشعر الشيعة في العراق، وهم الغالبية بمشاعر تقارب وتشابه مع إخوانهم في المذهب في إيران، وهي أمور تحدث وحدثت بين اتباع ديانات أخرى، وعلى سبيل المثال بين الكاثوليك في ايطاليا واسبانيا أمام اللوثريين في المانيا والنروج، الا ان الوصول الى التكهن بأن الشيعة في حالة الحرب قد يغيرون الراية التي يحاربون تحت ظلها، يبدو حكماً متسرعاً. لذا فبتتبع الأحداث التاريخية يتضح كيف تكون مشاعر عدم الثقة والخوف هي نتيجة نقص أو عدم معرفة الواقع. وكلما انتشرت المعرفة على مستوى الرأي العام أصبح دور الخبراء نسبياً وقلت الخسائر الناجمة عن الأخطاء المحتملة الوقوع. ويعد أمراً أساسياً تشجيع التفكير في عمل مشترك بين أوروبا والعالم العربي لمواجهة التكيف مع العولمة ? وقد صارت ضرورة - تكيفاً ناجحاً من دون التخلي عن الخصوصية الجيوبوليتيكية للبحر المتوسط. ويجب أن تتوقع أوروبا مشاركة قوية قائمة على الإقناع من جانب الثقافة العربية في تحديد إجابات مشتركة عن تحديات الحداثة. ان الانعزالية والانغلاق داخل حدود العالم الخاص يمكن أن تضعف من قدرات الشراكة بين أوروبا والعالم العربي حتى يكون لهما صوت في المحفل العالمي وحتى يتم تصحيح الاتجاهات التي لا تتفق مع قيم المنطقة ومصالحها المشتركة. ولهذا فمن المهم أن تتاح إمكانية أن يتعمق النقاش داخل العالم الغربي والعالم العربي لكي يبرز فضل من هو مستعد للتقريب بين مجتمعات المنطقة ولتشجيع الاتفاق اتفاقاً حقيقياً على القيم والمصالح. ولكن لكي نصل الى هذه الغاية، ينبغي لحوار الثقافات أن يأخذ على عاتقه واجبات واضحة مستنداً إلى التعاون والعمل الحقيقي. فمن دون عمل ميداني قائم على الاقتناع من جانب أكثر هيئات المجتمع المدني ادراكاً ينتابنا شك كبير في أن تستطيع مبادرات ضخمة مثل تحالف الحضارات تحقيق نتائج حقيقية لها صفة الدوام. وينتابنا كذلك شك كبير في أن يستطيع الحوار أن يستمر أمام سياسات تظهر فيها عوامل إيجاد الفرقة والتفرقة ومشاعر الإهانة والخزي. ويحق لنا أن نتساءل كيف لم يستطع الاتحاد الأوروبي أن يتوقع وأن يناقش ماهية الموقف الذي ينبغي له أن يتخذه في حالة فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية في كانون الثاني يناير الماضي. وكيف نسي أن حماس كانت ضمن قائمة الحركات الإرهابية. ولماذا يريد الآن بقراره المفاجئ بتعليق المساعدات أن يدفع الشعب الفلسطيني عواقب عدم تقديره للأمور. من المسؤول عن التوقعات التي جاءت على النقيض من إرادة الشعب الفلسطيني؟ فليدفع هؤلاء الثمن وليس النساء والأطفال الذين يتعرضون لخطر الموت بسبب سوء التغذية. وأين إذن الأخوة الإنسانية التي يبحث الحوار فيها ويسعى اليها؟ وما هو اذن مغزى تحالف الحضارات؟ وينبغي على أية حال مراعاة كون أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية تتخذان مواقف مختلفة من الحوار وان أوروبا نفسها ينقصها ذلك التماثل الثقافي الذي يسمح بمد جبهة الحديث من دون المخاطرة بتسطيحه وتحويله الى اعتبارات لها صفة العمومية بحيث تشبه الشعارات. ومع هذا فإن الولاياتالمتحدة، وعلى المستوى الثقافي، ليست معرضة للأحكام المسبقة المرتبطة بالاستعمار، وهي ظاهرة ترتبط في الغالب بأوروبا. فمن الاستعمار نشأت تيارات الاستشراق وتيارات الاستغراب المعاكس. ان الاستعمار هو بكل تأكيد المسؤول مسؤولية كبيرة عن الكسر الذي لم يلتئم بعد بين التقليد الإسلامي والتقليد المسيحي. ولا تزال هناك عتبة دينية في الشقاق، الكامن والحقيقي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الإسلام وأوروبا. وهي موجودة على مستوى أقل بكثير مع أميركا التي لم تخضع سياساتها الخارجية والأمنية لاعتبارات دينية. فلم تأخذ الولاياتالمتحدة، على سبيل المثال، في اعتبارها عند مساندتها شعب كوسوفو وغالبيتهم من المسلمين أموراً ترتبط بالحفاظ على التوازن الديني في المنطقة وهي اعتبارات كان يمكن أن تكون لمصلحة الصرب وهم من المسيحيين الأرثوذكس. وعلى المنوال نفسه قامت الولاياتالمتحدة في ما يتعلق بانضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي بتقويم للموضوع يساند تطلعات حكومة أردوغان وعلى أسباب أمنية واستراتيجية بينما لا يزال ما بقي من تردد في أوروبا يتعلق بمسائل مرتبطة بالتعايش الاجتماعي بين الهويات المختلفة للشعوب الأوروبية والتركية. وأوروبا التي فقدت في الآونة الأخيرة جانباً كبيراً من قدرتها على التوسط باتخاذها مواقف شاحبة لا تقوم على دراسات وتحليلات متعمقة، يمكنها ويجب عليها أن تستعيد دوراً أكبر في الشرق الأوسط الذي ترتبط به ارتباطاً حقيقياً من الناحية الجيوستراتيجية. ولا يعني هذا بالتأكيد انها تعوق التطلعات الأميركية وانما تستثمر معارفها الأفضل في الدراسة والتحليل وتراثها الأقوى في العلاقات مع دول المنطقة للتعامل في شكل أفضل من أجل اتقاء وتقليص عوامل القلق التي تؤدي أحياناً الى التدخل الأميركي والتي لا تستطيع أوروبا ازالتها في شكل فوري، وهو ما يؤدي الى نتائج سلبية على مصالح الأمن الأوروبية على المدى المتوسط. وتدعو الأزمة الخطرة التي ألمّت بمنطقة الشرق الأوسط أوروبا الى العمل متماسكة لإنقاذ الوحدة العربية الإسلامية ولمنع تيار التطرف الذي قد يضر بنا جميعاً. ويجب أن تكون هناك قيادة قوية تتواكب معها انطلاقة انسانية لرأب الصدع الذي أصاب الحوار الذي يواجه خطر ألا تكون لديه القدرة على دعم سياسة محنكة أو على التحول الى شبكة آمنة تحمينا من أخطائه المحتملة. * سفير ايطاليا في مصر