يقول البابا ما قال متناسياً أن تاريخ أوروبا ولمدة خمسمئة سنة هو تاريخ الحروب الدينية بشكل يكاد يكون حصرياً، وأن بإمكان الكثيرين أن يلتمسوا ويلمسوا في الثقافة المسيحية"التوراتية"جذوراً واصولاً للعنف والإرهاب، على أساس أن الانجيل براء من ذلك نصاً وروحاً، ولكن مقصور على دوره في تغذية الأدبيات والروحانيات العامة للحياة المسيحية، في حين أن التوراة، لدى الكاثوليك الغربيين خصوصاً، تشكل الذاكرة ومنظومة الأفكار والقيم العلائقية مع الاجتماع والتاريخ والآخرين، هذا في حين ان كثيرين باستطاعتهم الاستناد الى أدبيات كاثوليكية مسكونة بروح الانجيل ولغته التي لا تفرق كثيراً بين الذات والآخر، ليبرئوا المسيحية من انتاج العنف ومساندة الإرهاب، ويرى ذلك كله، آتياً من قراءة مسيحية للتوراة على مقتضى المنهج اليهودي في إلغاء الأمم الغوييم. إذ يقول البابا ما قال يضطرنا الى شيء من التفريق بين المسيحية في الغرب والمسيحية في الشرق، أي بين مسيحية المنبع الشرقي ومسيحية المصب الغربي، حيث كانت في الشرق مكوناً للمسيحي، روحاً ودوراً، ما جعلها تدخل في مكونات المسلم، تماماً كما دخل الإسلام في مكونات المسيحي ونظام حياته الذي يعتريه الخلل أحياناً كثيرة، وبتدخل غربي أكثر الأحيان، ولكن سرعان ما يعود الى الالتئام والاعتدال واكتشاف شروط الوجود والايمان والمعرفة والحياة في فضاء التوحيد الإبراهيمي المشترك والذي شوهته الاختراقات التوراتية لفكر المسيحي في الغرب لتمنعه أن يكون جامعاً وملزماً بالسلام بين أتباع الأديان الثلاثة. وما نريد قوله بالتحديد في هذا الصدد، هو أن المسيحية في الغرب كانت في وعي الغربي بمنزلة الغزو والفكر الغازي الذي صادرته الكنيسة لتصادر به العقل والاجتماع والسلطة والمعرفة والتاريخ، إلى أن انتهت ألف سنة من صراع الغرب ضد المسيحية الى انتصار العقل على الخرافة، وانتصار الايمان على المسوح، وانتصار الاجتماع والدولة على الكنيسة التي أنقذها هذا الانتصار من ذاتها وأنقذ المسيحية منها. من هنا، لم يكن الغرب مسيحياً كما كان الشرق وما زال مسيحياً، ولم يعد مسيحياً تماماً إلا في حدود التحولات العميقة والهادفة والتي تقرأ الانجيل والتاريخ والمستقبل بهدوء وروية وروح مسكونية عالية، وتحاول أن تعيد الايمان التوحيدي الى نسيج العقل والروح الغربيين، كالمتحول الذي أحدثه الفاتيكان الثاني قبل أكثر من ثلث قرن، مؤسساً للحوار مع أهل التوحيد، على أساس الحوار مع الذات أولاً، وفي اتجاه بلورة الايمان، في توجه إنساني حرص مفكرون مسيحيون كثيرون في الغرب على تعزيزه في العقل والسلوك المسيحي الغربي، في حين كان مسيحيو المشرق يعيشونه بعفوية شديدة، وبشكل طبيعي جداً. وعاد البابا يوحنا بولس الثاني ليرعى الحوار القائم على الاعتراف بالآخر على أساس المشترك الإبراهيمي وعدم حصرية الخلاص، منتهياً الى اكتشاف مكان مثالي لاختبار هذا التوجه وترسيخه، عندما اعتنى بحنو ودأب بالسينودس من أجل لبنان، وأصدر على أثره ارشاده الرسولي الذي يتعاون لبنانيون مختلفون على الفتك به وإلغائه من مشهد لبنان ومستقبله الذي يعني المنطقة كلها كذلك، بعدما حاول كثيرون من المسلمين والمسيحيين في لبنان تشكيل ورشة لتفعيله باعتباره داخلاً في الشأن الإسلامي، وإن بدرجة أقل من الشأن المسيحي بسبب الاختصاص، لأن اللبنانيين، أو زعماء الطوائف، يهمون بإلغاء لبنان، متواطئين في ما بينهم على المضمون مختلفين على الشكل، وإن تساجلوا أو تصارعوا لصالح ثقافة التوراة والتلمود التي تسعى الى إعادة الأمم إلى حالة"الغوييم"والشعب المختار، من خلال التخطيط والعمل الدائم والمحموم لإلغاء الدول والمجتمعات في المنطقة، لتبقى دولة واحدة تستخدم شراكتها مع الغرب اللامسيحي، أو المسيحي المتصهين، لمنع السلام والاستقرار والاستقلال والحرية والنهوض والحوار بين مكونات الاجتماعي الوطني، وبين الشرق والغرب... الخ. وعندما كان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني مشغولاً بالمزيد من أنسنة المسيحية، مشجعاً على إعادة تظهير العمق والمقصد الإنساني للأديان الأخرى، متناغماً في ذلك، مع جهود فكرية دينية إسلامية متنامية في الاتجاه ذاته، كان البابا الحالي يمارس دوراً دقيقاً، دور رعاية واشراف على البنية العقدية للكثلكة، هذا الدور الذي إذا ما توفر له عقل سمح، استطاع أن يلطف البعد الإلغائي في المنظومة العقائدية، من خلال اخضاعها للقيم التي كان الدين من أجلها، وجعلها الصالحون والقديسون، حاكماً على العقيدة والسلوك، في حين أن هذا الدور عليه أن ينتج حالة من الانحباس الديني من خلال إعادة انتاج العقيدة على موجب التمايز أو الفصال مع الآخر، ما يغري بالانعزال والعزلة ودفع الآخر الى سلوك مماثل، ومن السلوكين يتكون فضاء من التوتر الجديد يتيح للقوى السلطوية والساعية الى مزيد من السلطة بالحرب والسلم والاستيلاء الذي يستدعي دائماً عنفاً وتدميراً ورفعاً للاختلاف الى مستوى التناقض التناحري، يتيح لهذه القوى مبررات ايديولوجية دينية أولاً وسهلة تغري الجماهير الهائجة بالتعصب أو العصاب الديني الذي ينطوي على عصاب مذهبي أدهى وأمر، حتى تحوّل حروبها المدنَّسة والمدنِّسة الى حرب مقدسة! من هنا خوفنا من أن يكون كلام البابا دافعاً إلى طاحونة الحرب، التي كنا، مسلمين ومسيحيين، في هذا الشرق المنكوب والمكابر، وبالحوار بين أهل العدل والمحبة في الغرب والشرق، نسعى دائبين الى تلافيها الحرب لما فيها من سحق للدين والمتدينين والأوطان والمواطنين، هنا سترتفع أصوات التطرف الإسلامي المصنّع في الغرب والشرق معاً، والذي تغذيه بعض القوى الغربية تسويفاً لتطرفها، وتنشيطاً للتطرف الإسلامي الذي يسهم في تنشيط التطرف المسيحي، ليسهما معاً في اضاعة الدنيا بالدين وإلغاء الدين بالدنيا. هل يكون البابا بما قاله مصدراً جديداً من مصادر التوتر والقلق؟ هل يعود الى التعثر ذلك الدور الكاثوليكي المرجو دائماً لانتاج التفاهمات العميقة مع المسلمين في هذه المرحلة الحرجة؟ هل تعود الكثلكة الشاسعة الى القوقعة؟ أي الى تاريخ خسائرها وخسائرنا جراء العزلة والعزل؟ * كاتب لبناني