اذا صدقنا ما كتبه بعض مؤرخي الشعر الحديث، ومرّ غالباً من دون ان يلتفت اليه احد بجدية، أمام السيل الهادر من الكتابات الاخرى التي لم تر ذلك الرأي، فإن الكاتب والشاعر الاميركي إدغار آلن بو، هو"المؤسس"الحقيقي لنظريات الحداثة في الشعر. بمعنى ان آلان بو، لم يكتف بأن يكون، كما نعرف دائماً، مؤسس الرواية والقصة البوليسية، بل هو الذي وضع، ايضاً، تلك القواعد التي رسمت للشعر الحديث طرقه ونظمه التي سار عليها، منذ ذلك الحين، أي منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر بسنوات قليلة. وأكثر من هذا، ثمة، من بين المؤرخين الذين أكدوا هذا، من لا يتورع عن القول ان هذا التأسيس، انما جاء بقلم إدغار آلن بو، على شكل مزحة... او أي شيء من هذا القبيل، طالما ان الرجل، بعدما رسم القواعد المطلوبة في محاضرة، كانت في ذلك الحين نالت قدراً لا بأس به من الشهرة، عاد هو، حين كتب اول قصيدة له، وهي"الغراب"ليتخلى سريعاً عن تلك القواعد، حتى وإن كان مغرقاً من جديد في مزاحه هنا ايضاً؟! عاد لينظم القواعد من جديد، في نصين آخرين له نشرهما بعد"الغراب". صحيح ان هذا كله يبدو هنا اشبه بأحجية بالنسبة الى القارئ. فما الضير يا ترى؟ أفلسنا نتحدث في نهاية الأمر عن ماله علاقة بتأسيس ذلك الشعر الذي صار مذّاك، وبدوره، اشبه بالاحجية؟ وعلى هذا الأمر يستشهد المؤرخون بأن ثلاثة على الاقل من كبار شعراء الحداثة الفرنسيين، عند السنوات الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، تأثروا بنظريات آلان بو وبجلدها، ومن بينهم بالطبع شارل بودلير - مترجم العديد من اعمال آلان بو الى الفرنسية - وايضاً فرلين ومالارميه. وهؤلاء الثلاثة، معاً،هم الذين نعرف انهم رسموا الحداثة الشعرية كما تجلت في طول القرن العشرين وعرضه متأثرين تحديداً بنظريات آلان بو. اما هذه النظريات التي نتحدث عنها هنا هي تلك التي نجدها في محاضرته الشهيرة"مبادئ الشعر"ثم في نصه المتأخر"تكوين قصيدة"واخيراً في"جوهر الشعر". ولعل الملاحظة التي تفرض نفسها هنا هي تلك التي تفيدنا بأن شارل بودلير، على رغم اطلاعه الواسع على المحاضرة الأولى والاهم"مبادئ الشعر"لم يقدم على ترجمتها ابداً، لكنه استخدمها كثيراً، في كتاباته وفي شعره، ثم بخاصة في النصوص التي كتبها عن أدب وشعر آلان بو كتقديم لترجماته. وهنا، لن يعنينا كثيراً، بالطبع، ان نتساءل حول اسباب هذا الاستنكاف البودليري. ما يهمنا هوالتوقف عند هذه المبادئ، التي - كما أشرنا - لم يتورع البعض عن ابداء الدهشة اذ لم يتفضل آلان بو بتطبيقها في أشعاره. "مبادئ الشعر"هي في الاصل محاضرة ألقاها إدغار آلن بو، في مدينة ريتشموند في العام 1849، لتعتبر منذ ذلك الحين اشبه بالميثاق المدون للشعر الخالص. أي الشعر كشعر، مبتعداً عن الادب والأخلاق والحكايات وحتى عن البعد الملحمي. فالحقيقة ان ما يتحدث عنه بودلير هنا هو"الشعر للشعر"كما سيتحدث كثر من بعده عن"الفن للفن". فكيف يعرف آلان بو الشعر؟ وما الذي يريده منه؟ انه منذ البداية يقترح علينا ان نبحث معه لتعرف اين وماذا هو ذلك الشيء الذي تعارفنا على تسميته شعراً. وهو، على سبيل الاجابة على هذين السؤالين، يضعنا امام جملة من المبادئ او القواعد التي يجعل سير النص على خطاها، من هذا النص شعراً. ومن أهم هذه المبادئ: - ان الشعر هو ذلك النص الذي يرفع روح الانسان الى اعلى درجات السمو. - على القصيدة الشعرية ان تكون قصيرة طالما اننا نعرف ان الاثارة الروحية الشاعرية لا يمكنها الا ان تكون سريعة وعابرة في الزمن. - ومع هذا فإن ليس لنا، أو علينا، ان نبالغ في تقصير القصيدة، لأن هذا يجعل منها مجرد صورة معزولة او قولاً مأثوراً، مما يلغي السحر النابع من الاستغراق في التعاطي مع اللغة. - الشعر والحقيقة ليس في وسعهما ابداً ان يتصالحا... وبخاصة لأن غاياتهما متفرقة. فما يسعى اليه الشعر، ليس هو نفسه ما تسعى اليه الحقيقة، وإلا لاختلط الشعر بالفلسفة. - ان القصيدة هي، في معنى من المعاني، وحدة عضوية لا تتجزأ، وهي وحدة متماسكة لا تعني شيئاً خارج ذاتها وكينونتها المستقلة. - والشعر لا يمكن لنا، بل لا يحق لنا اصلاً، ان نصدر عليه احكامنا انطلاقاً من معايير الاخلاق او حتى انطلاقاً من معايير الادراك العقلي الواضح، لأن الشعر لا يحكمه سوى الذوق، او سوى حسن الجمال الخالص. - أما الإحساس بالجمال فإنه امر لا يمكن لأحد او لشيء ان يقهره فينا، لأنه - في نهاية الأمر - صورة مجسدة لألوهية الانسان في هذه الحياة الدنيا. وانطلاقاً من هنا يرى إدغار آلن بو، ان الشعر اذا كان يشبه شيئاً فإن هذا الشيء لا يمكن ان يكون سوى الموسيقى... فالشعر والموسيقى يتبعان معاً الغايات نفسها. بل ان الشعر هو الابداع الايقاعي - وبالتالي المموسق - للجمال نفسه. ويستطرد آلان بو هنا ليقول انه الجمال، انطلاقاً من هنا ليس في الامكان فصله عن مناخ موت ما، يبرر وجوده، طالما انه عمل على علاقة مباشرة باستثارة الروح المدعوة في كل لحظة الى تجاوز ذاتها في لعبة موت وولادة لا تنتهي. ولما كانت الامور على هذا النحو، فإن ادغار آلان بو يفيدنا في النهاية ان الموضوعين اللذين يلائما الشعر في قواعده الصافية هذه، أكثر من اية مواضيع اخرى، هما"الحب"و"المرأة". ومن هنا يلاحظ كيف ان الجزء الأكبر من الشعر الذي كتبه ابناء البشرية في تاريخهم، انما يدور من حول هذين الموضوعين. بيد ان آلان بو، اذ قال هذا، بكل وضوح، نسي ان يفسر لنا كيف ان أشعاره هو، كان من النادر لها ان تحلقت من حول هذين الموضوعين! ومهما يكن من أمر آلان بو وعلاقة نظرياته بشعر، لا بد ان نذكر، مع الباحثين ان اللهجة التقريرية العلمية الصارمة التي وسمت هذه المبادئ آتية وكأنها معادلات حسابية منطقية، عرفت - ويا لغرابة الامر - كيف ستحوذ تماماً على شارل بودلير، فاذا به يتبناها تماماً، ويحولها الى أمور تطبيقية يتبعه في ذلك خليفتاه الكبيران مالارميه ثم فاليري، بعد ان أخذ فرلين من هذه الافكار ما كان في حاجة اليه. بيد ان الفكرة الاساسية التي تمسك بها بودلير، كانت تلك التي ركزت على استقلالية الفن بمعنى ان أي مشروع فني ليس له ان تكون أي ذات خارج اطار ذاته الخاصة، ويجب ألا تكون له أية غاية اخرى خارج غايته الخاصة... ولا شك ان هذه الفكرة بالذات، والتي تعاد ابديتها، ها هنا، الى ادغار آلان بو، كانت هي التي ولدت مبادئ الفن للفن والشعر للشعر، طوال القرن العشرين. اما بالنسبة الى ادغار آلان بو 1809-1849، فإنه بعدما نشر نصه الاول هذا، ثم ألحقه بالنصين الآخرين اللذين يقولان الشيء نفسه على اية حال، مع بعض الاستطرادات، فإنه ظل قرير العين، بعد اشعاله ثورته الشكلية هذه في عالم الشعر. بل ظل يواصل كتابة أشعاره محرراً إياها حتى من قواعد التحرر التي رسمها بنفسه، كما انه ظل يواصل كتابة نصوصه المرعبة ونصوصه البوليسية وكتاباته الاخرى التي جعلت منه واحداً من أكبر الكتاب في تاريخ الادب الأميركي كله ومنها"سقوط منزل آل آثر"و"مقتلة في شارع المشرحة"و"قصص غريبة"و"قصص غريبة اخرى"وغيرها.