يبدو الخطل الأميركي في الرؤية تهولاً بعد خمس سنوات وعلى حوادث أيلول سبتمبر عام 2001، فإذا كان ما سمعناه من الرئيس جورج بوش خلال شهري آب أغسطس وأيلول جدياً، فإن"مفكّري"الادارة الأميركية يعتبرون أن هناك ظاهرة مسيطرة في العالمين العربي والإسلامي، وبين الجاليات الإسلامية والغرب عنوانها"الفاشية الإسلامية". ولكي لا يكون هناك وهمٌ بشأن ما يقصده الرئيس بوش، فقد أوضح لنا كاتب خطاباته أنها أي الفاشية الإسلامية خليفة النازية والفاشية والشيوعية، التي كافحها العالم الغربي كله خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها الى حين انتهاء الاتحاد السوفياتي وسقوطه! وهذه هي المرة الأولى التي تقول فيها الإدارة رسمياً إنها مع فكرة"صِدام الحضارات"التي قال بها هنتنغتون مطالع التسعينات. إنما الفرق أن صموئيل هنتنغتون ذكر حضارات انفصالية أخرى غير الإسلام مثل الكونفوشيوسية/البوذية، وإن رجّح انفراد الإسلام وحضارته بمواجهة الغرب. وبوش ذكر ست مرات خلال ثلاثة أسابيع الفاشية الإسلامية بمفردها في مواجهة كل العالم. وأقول إنها المرة الأولى، لأنه حتى بعد احداث 11 ايلول، حرص سائر المسؤولين الأميركيين على التفريق بين الإسلام الدين والحضارة والشعوب، وبين المتطرفين الذين اعتبر هؤلاء - ومن بينهم الرئيس بوش - أنهم خطفوا الإسلام، وأن على المعتدلين والإصلاحيين من المسلمين استرداده أو تحريره. بل إن مثقفي الإدارة وبعض المحافظين والليبراليين راحوا يروّجون لرؤية"الحرب العادلة"لتسويغ"الحرب على الإرهاب الإسلامي"باعتبارها دفاعاً عن النفس وعن القيم الإنسانية وحسب، بل ورجوا أن يدخل معهم المسلمون في تلك الحرب دفاعاً عن أنفسهم ودينهم أيضاً. وبعد عام على احتلال كل من افغانستانوالعراق، ودخول"الحرب على الارهاب"عامها الثاني، وبدء حملات"الديبلوماسية العامة"لكسب رضا العرب والمسلمين، طلع علينا دونالد رامسفيلد بنظريته حول"حرب الأفكار"، أي أنه أراد وضع حربه من أجل"الديموقراطية والتنمية"في مقابل جهادية أسامة بن لادن وفُسْطَاطَيْه. ومع ذلك فإن استطلاعات الرأي كثيراً ما أظهرت تحسناً في شعبية الولاياتالمتحدة لدى العرب والمسلمين، لأنهم ما رأوا ديموقراطية ولا تنمية إنما رأوا خراب العراق وأفغانستان وامتداد الخراب الى السودان والصومال، فازداد تأثير بن لادن بدلاً من أن يخف. والذي يبدو أن أطروحة"الفاشية الإسلامية"كانت تُعدّ للرئيس بوش ليخوض بها الانتخابات النصفية بعد شهرين، بإظهار حاجة الأميركيين المستمرة والمتزايدة الى الأمن والحروب والبقاء في العراق باعتبار أنهم يواجهون عدواً هائلاً ممتداً على مدى العالم يضاهي في الخطورة موسوليني وهتلر وستالين معاً. وقد فاجأتهم ايران بالهجوم على اسرائيل من لبنان، بعد أحاديث وخطابات وتصريحات محمود أحمدي نجاد على مدى الشهور الماضية. البارز في"خطاب"نجاد - إذا صحّ تسميته كذلك - هذا الجانب شبه العنصري الموجّه ضد اسرائيل تارة وضدّ اليهود تارة أخرى يريد الآن عقد مؤتمر دولي في طهران للتشكيك في الهولوكوست. وايران نظام وليس حركة دينية وفكرية فقط، ولذلك فإن مصطلح"الفاشية"اذا ضم ايران أيضاً أي الإسلام السني والشيعي معاً، يصبح أكثر معقولية. فالفاشيات ما صارت خطيرة في اوروبا إلا عندما تحولت من"حركات"نخبة وعاميات الى أنظمة سيطرة في دول أوروبية عدة أولها ايطاليا. ومن جهة أخرى فإن الجهاديين انزعجوا من السّمعة الجماهيرية العالية التي صارت ل"حزب الله"وأمينه العام السيد حسن نصرالله نتيجة الهجوم على اسرائيل والصمود في وجهها، فعادوا للتذكير بفعلتهم المجيدة من خلال الشريط الذي أرسلوه الى قناة"الجزيرة"عن تحضيراتهم لغزوة أميركا في 11/9/2001. وهكذا اكتمل مشهد"الفاشية الإسلامية"لدى بوش واعوانه: بن لادن والجهاديون يقولون إنهم هاجموا الولاياتالمتحدة وسيهاجمونها. ونجاد يقول إنه يريد إزالة اسرائيل من الوجود، ويريد أن يلقن أميركا درساً في مواطن كثيرة. والسيد حسن نصر الله يقول إن الحرب عليه وعلى"حزب الله"ولبنان إنما هي حرب أميركية واسرائيل أداة فقط، ولذلك فإن رده مفتوح، وحربه هي حرب الأمة. ولذلك فإن على الأميركيين أن يظلوا خائفين وحذرين ومنتشرين بجيوشهم في كل مكان، فهم في حرب على"الفاشية الإسلامية"التي تريد تدمير الولاياتالمتحدة وحبيبتها اسرائيل. وهكذا فإن أطروحة"الفاشية الإسلامية"هي أطروحة تخويفية للأميركيين مثلما كانت الشيوعية عند المكارثيين في مطلع الخمسينات، وخلال فترات اشتعال الحرب الباردة، وصولاً الى"الشيطان الأكبر"أيام رونالد ريغان، والخطر الأخطر لدى اليمين الأوروبي والأميركي بعد قيام الثورة الإسلامية في ايران، ومصرع الرئيس السادات، والى أطروحة هنتنغتون في"صِدام الحضارات". هل يعني هذا أن مقولة"الفاشية الإسلامية"هي مجرد تكتيك انتخابي؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنه يسهل تنحية كوندوليزا رايس عنها، والتي يروّج كثيرون عن الليبراليين واليساريين لدى العرب والمسلمين والإسرائيليين أنها تخوض صراعاً لتثبيت سياساتها الجديدة ضد الصقور في البيت الأبيض الذين يتزعمهم ديك تشيني نائب الرئيس، والذي يقف من وراء مقولة الفاشية وعينه على الانتخابات الأميركية المقبلة. فلتشيني، بحسب وجهة النظر الطريفة هذه، أربعة اهداف: إقناع الأميركيين بوجود خطر كبير مؤامرة الطائرات، وحرب"حزب الله"على اسرائيل، والهدف الثاني: ضرورة بقاء العسكر الأميركي في العراق. والهدف الثالث: ضرورة دعم مصارعة ايران. والهدف الرابع: ضرورة تجديد"الحرب على الارهاب"بعد أن باخت فكرتها وتكتيكاتها نتيجة الفشل في كل مكان. إنما المشكلة في هذا التكتيك - حتى مع التسليم بهذا الرأي الطريف لا أكثر، كما سبق وصفه - أنه يستحيل مع هذا الطرح الدخول في أي حل أو محاولته في منطقة الشرق الأوسط القديم أو الأوسع أو الكبير!. فالبارزون في المنطقة الآن عن الاسلاميين يدخلون جميعاً تحت مصطلح ومفهوم"الفاشية"، والتي لا مصالحة معها. فكيف سيقابل الأميركيون الذهاب العربي يوم 21/9 الى الاممالمتحدة من أجل القرار رقم 242 والسلام الشامل؟ فالتسوية في فلسطين وحتى مع سورية من ضمن أهدافها استيعاب"الغضب الاسلامي"الموجّه ضد اسرائيل المعتدية وضد الولاياتالمتحدة المهيمنة. ويبقى أن هذه الرؤية الأميركية المبتدعة فعلاً، وبعد خمس سنوات على 11 أيلول، تشير الى خلل خطير في الرؤية والتصرف لدى الادارة الأميركية حتى لو وجدنا لها اعذاراً بالفشل في العراق، وبالحاجة الى ذلك في الانتخاب. وأياً يكن الأمر فإن هذا التصرف يتخذ أبعاداً مأسوية"، لأنه يأتي بعد خمس سنوات من التجارب المريرة في المشرق، لم يتعلم منها الأميركيون شيئاً لأن بيئة القرار في الولاياتالمتحدة أصولية، فيصدق بذلك حول طارق علي وإدوار سعيد إنه صراع بين أصوليات! ولندع المشهد الأميركي المؤسي لبعض الوقت، ولنلتفت الى الجانب العربي والاسلامي من المشهد. هناك خطاب إسلامي أصولي شاسع الابعاد، وحاضر لدى السنة في الحاكمية ولدى الشيعة في ولاية الفقيه. بيد أن هذه المشهد العام الذي يغلي ويفور ذو شقين: شق لا هدف له غير مصارعة"الكفر العالمي"، والشق الآخر والسائد يملك مشروعاً لإقامة دولة أو نظام اسلامي. وبسبب اختلاف الهدف تختلف الممارسات. ففي حين يغلّب الجهاديون الممارسة الصراعية التي لا هدف لها غير كسر الشوكة، يميل اصحاب مشروع"الدولة الاسلامية"الى الراديكالية في الخطاب التعبوي، والتوسط في التخاطب مع الانظمة وحتى مع الأميركيين. الجهاديون يملكون خطاباً واحداً وممارسة واحدة. والدولتيون يملكون خطابين، أحدهما ظاهر والآخر مستتر، وممارسات أو تكتيكات عدة. ولذلك يحاول بعض العرب وبعض الاوروبيين وربما بعض الأميركيين استيعاب الدولتيين، والاستمرار في مصارعة الجهاديين. والشأن مع الأصولية الشيعية غير ذلك. فالأصولية الشيعية المنظمة تخضع كلها لايران. وهي خارج ايران تتصرف بالممارسة في خطين: خط إنفاذ التكاليف للولي الفقيه، وخط الانفصال النسبي والانطواء ضمن الجماعة الوطنية في بلدانها. ولهذا فليست لديها مشكلة مع الغرب أو الولاياتالمتحدة إن لم تكلّف بذلك. أما في السياسات الداخلية فيبقى التوتّر حاضراً للإحساس المتضخم بالخصوصية. بعد خمس سنوات على احداث 11 ايلول لا يزال الأميركيون حاضرين بقوة وعسكراً ونفوذاً أو هما معاً في سائر أنحاء ديار الإسلام، وهم استطاعوا التمركز والاحتلال، لكنهم ما استطاعوا هزيمة الجهاديين، ولا استئناس الدولتيين. أما الجهاديون فيبدون منتهكين، لكنهم مصممون على المتابعة، في حين يصعد نجم الدولتيين بما يضطر الأميركيين والانظمة للسلوك مسلك العصا والجزرة تجاههم. لدى أصوليي السنّة يتقدم الدولتيون، بينما يصارع الجهاديون صراع البقاء. أما الاصوليون الشيعة فقد كانوا هادئين نسبياً قبل خمس سنوات. لكنهم تحركوا بعد العام 2003 عند بدء الهجوم الاستراتيجي الايراني على مناطق النفوذ الأميركي، ولذلك صاروا مثل الأصوليين السنّة من حيث تهديد الاستقرار في البلدان العربية والاسلامية التي ينتشرون فيها. أما الاصولية الاميركية المهيمنة سياسة وديناً، فإنها انتقلت وبعد خمس سنوات على حوادث أيلول، من خطاب الحرب العادلة وحرب الأفكار، الى خطاب مصارعة"الفاشية الإسلامية". لقد صار الجوّ راديكالياً كله، وبخاصة بعد حرب"حزب الله"واسرائيل.