Bruno Tertrais. La Guerre sans Fin: L'Amerique dans L'Engrenage. حرب بلا نهاية: أميركا في الدوامة. Seuil, Paris. 2004. 96 pages. لقد احدثت اعتداءات 11 ايلول سبتمبر تحولا جذرياً في الثقافة السياسية الاميركية. واياً ما تكن نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة في الولاياتالمتحدة، فإنه لن تكون هناك عودة الى الوراء. فأميركا هي اليوم في الدوامة. ولن يكون سهلاً عليها، ولا على بقية العالم، الخروج منها. فالقرن الحادي والعشرون سيكون، في نصفه الاول على الأقل، قرن المواجهة بين الارهاب الاسلاموي، او ربما الاسلام نفسه، وبين العالم الغربي. وفي هذه المواجهة لن يكون ممكناً لا النصر ولا الحل الوسط. انها حرب الثلاثين عاماً، او حتى المئة عام التي دامتها حرب الاديان في أوروبا بين منتصف القرن السادس عشر ومنتصف القرن السابع عشر، ولكن مع هذا الفارق وهو ان النهاية ليست مضمونة. فأوروبا دفعت غالياً في حينه فاتورة دخولها الى الحداثة. ولكن على حين ان فاتورة حرب القرن الحادي والعشرين لن تكون أقل فداحة، فإن المواجهة الجديدة تنذر بأن تكون بلا نهاية، بل تنذر بإعادة ادخال العالم في قرون وسطى جديدة محكومة بمنطق الصليبيات والجهاديات. هذه هي الاطروحة المركزية التي ينطلق منها، او بالأحرى ينتهي اليها، مؤلف "حرب بلا نهاية" في محاولته تقديم قراءة موضوعية للاستراتيجية الاميركية الجديدة: قراءة ليس همها الاول ان تدينها، بل ان تفهم وان تفسر الآليات التي تتحكم بها، وان تنفذ، خلف واجهتها السياسية، الى باطنها الايديولوجي والديني. ذلك ان المواجهة الجديدة قد اطلقت قوى التطرف في كلا المعسكرين. ومن منظور التطرف تحديداً، يبدو وكأن المبادر الى هذه الحرب وهو بن لادن نفسه هو الرابح حتى الآن: ليس لأنه نجح في تحدي أميركا في عقر دارها وفي ضربها في أعزّ رموزها بعد ان كان نجح في مهاجمة مصالحها وسفاراتها في خارجها، بل كذلك، وأساساً، لأنه أفلح في ان يشعل ما ينذر، يوماً بعد يوم، في ان يكون "حرب حضارات". وبديهي ان التسمية لا تعود الى بن لادن نفسه، ولا حتى الاستراتيجية. فالآباء المؤسسون للايديولوجيا الجهادية الاسلاموية من امثال الباكستاني ابو الاعلى المودودي والمصري سيد قطب كانوا سباقين الى القول بضرورة وحتمية الحرب بين الحضارة الاسلامية و"الجاهلية" الغربية. لكن بن لادن هو الذي يعود اليه السبق في وضع هذه الاستراتيجية موضع تطبيق. وقد حقق، من خلال ضربة 11/9 نجاحاً مزدوجاً: تعبئة وجدانية غير مسبوق اليها في الشارعين العربي والاسلامي ضد "الصليبيين الجدد"، اي الاميركان المتحالفين حلفاً لا فكاك له مع الاسرائيليين، واستنفاراً مضاداً في الشارع الاميركي للقوى الاشد تطرفاً في اصوليتها الدينية والايديولوجية معاً، من جعل القراءة "التوراتية" لاعتداءات 11/9 تتغلب على القراءة السياسية، فكانت بالتالي المماهاة بين تدمير برجي مركز التجارة العالمي وتدمير هيكل القدس، وكذلك المماهاة بين بن لادن وبين بختنصر السبي البابلي. وهذه القراءة التوارتية هي التي تغلبت على غيرها ايضاً من القراءات في الحرب العراقية، حيث جرى إحياء الاسم التوراتي للعراق: "ما بين الرافدين"، وجرى تشبيه سقوط بغداد بسقوط بابل "الوثنية" التي بشر بها سفر عزحيا من العهد القديم: "قد سقطت، قد سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها قد طُوح بها أرضاً وتحطمت". ومن منظور هذا الانفلات لقوى التطرف الديني فان مؤلف "حرب بلا نهاية" يؤثر ان يتكلم، لا عن "صدام حضارات" كما كان اقترح هنتنغتون، بل عن "صدام اصوليات": فالاصولية ليست حكراً على العالم العربي والاسلامي وإن تكن هي الأصخب صوتاً منذ ان اطلق بن لادن فتواه الشهيرة عام 1998 بقتل جميع اليهود والاميركيين وحلفائهم - من عسكريين ومدنيين - بهدف تحرير اراضي الاسلام المقدسة في الجزيرة العربية وفلسطين من رجسهم. ففي الولايات ا لمتحدة ايضاً تفعّل، بعد اعتداءات 11/9، الحلف القديم بين المحافظين الجدد والنخب المثقفة اليهودية في الشاطئ الشرقي والاصوليين البروتستانتيين في ولايات الجنوب، وتشكلت جبهة مشتركة عريضة لمحاربة "المسيح الدجال" او "محور الشر" على حد التعبير الذي آثر الرئيس بوش استعماله تحت تأثير كاتب خطاباته الواعظ الانجيلي ميكاييل جرسون. بين هاتين الاصوليتين، الاسلامية والبروتستانتية اليهودية، يبدو ان اي توفيق غير ممكن: عندما يكون الاسلام في نظر الاولى هو الحل، وفي نظر الثانية هو المشكلة، فان المواجهة لا بد ان تأخذ شكل صدام، ونظراً الى الثقل الديموغرافي العالمي الاسلامي نحو من 900 مليون نسمة، اي ما يعادل سبع سكان العالم، فان هذا الصدام مرشح لأن يكون بلا نهاية. أهو صدام مع الاسلام نفسه ام مع الاسلاموية؟ الواقع ان "التجلية" الكبرى للدماغ المخطط لاعتداءات 11/9 هي النجاح في تغليب منطق التصعيد، وبالتالي في تحقيق قدر غير قليل من التطابق بين كلا المفهومين وهو ما يتجلى في الشارع العربي والاسلامي في استقطابية جديدة تحل مفهوم "الأمة" بمعناه الديني محل مفهوم "الأمة" بمعناه القومي، وهو ما يتجلى ايضاً في الساحة الاميركية التي لم يعد الخطاب الاصولي السائد فيها يفرق بين الاسلام بما هو دين وبين الاسلام السياسي الجذري الذي يتعقّل الارهاب نفسه على انه "جهاد". ومن المنظور الاميركي تحديداً فان مدرسة هنتنغتون كانت السباقة الى هذا الخلط منذ ان كتب مؤلف "صدام الحضارات" في مقال له عام 1990 يقول: "ليس جوهر المشكلة بالنسبة الى الغرب الاصولية الاسلامية، بل الاسلام نفسه من حيث هو حضارة مختلفة، شعوبها وطيدة الاقتناع بتفوق ثقافتها ومسكونة في الوقت نفسه بهاجس دونية قدرتها". وفرنسيس فوكوياما، تلميذ هنتنغتون ومؤلف "نهاية التاريخ" هو ايضاً من استدرك اطروحته وكتب مقالة في عام 2002 تحت عنوان "هل بدأ التاريخ من جديد؟" يؤكد فيها ان المشكلة ليست في شخص بن لادن، ولا في تنظيم "القاعدة"، بل في الاسلام نفسه من حيث انه "الوحيد بين ثقافات العالم الكبيرة الذي لديه مشكلة اساسية مع الحداثة". وعلى مقربة مباشرة من صانعي القرار في البيت الابيض تنحو مجموعة نافذة من الايديولوجيين المحافظين، من امثال وليم باكلي واليوت كوهن وتشارلز كراوتهامر ونورمان بودهورتز الى اقامة علاقة سببية بين الاسلام والعنف سواء ما كان من هذا العنف داخل حدود الدولة الاسلامية ام خارجها. ولم تحجم هذه المجموعة عن المجاهرة باستيائها من الموقف المعتدل الذي تميل وزارة الخارجية الاميركية الى اعتماده تقليدياً في هذا المجال، والذي وجد تعبيره الصحيح في التصريح "الديبلوماسي" الذي كان ادلى به الرئيس بوش من ان "الاسلام دين سلمي". والواقع ان موقف اليمينيين الجدد هذا يبدو "معتدلاً" بالمقارنة مع موقف المتطرفين الدينيين. فههنا يأخذ العداء للاسلام شكلاً هذائياً. فروبرت موراي، وهو من اعضاء جمعية "الدفاع عن الايمان"، يدعو الى شن "حرب صليبية جديدة" والى "تدمير مدن الاسلام المقدسة" في ما اذا تكرر عدوان الاسلاميين على أميركا. وفرانكلين غراهام يصف الاسلام بانه من "اخبث الاديان"، والقس جيري فالويل ينعت النبي بأنه "ارهابي" فيما يصل الأمر مع جيمي سوغارت إلى رميه ب"الفسق الجنسي". اما بات روبرتسون فيصرح على "شبكة الاذاعة المسيحية" ان المسلمين "أشرّ من النازيين". وحتى المعتدلون من الانجيليين، كما تنقل عنهم راشيل زول، لا يملكون الا ان يلاحظوا ان "الاسلام قد غدا المكافئ العصري لامبراطورية الشر". وتصريحات هذائية كهذه ما يجعل المؤلف يختم بالقول: ان الاصولية الاميركية المسيحية - اليهودية كما الاصولية الاسلامية يحكمها مفعول المرآة، فكل منهما تعكس للاخرى صورة مطابقة لذاتها. ذلك ان اوجه الشبه بين الاصوليتين، على رغم ما بينهما من عداء مستميت، اكثر من ان تحصى: الخوف من الحداثة، معاداة فكرة التقدم والعلمانية، رفض نظرية النشوء والارتقاء، طلب الخلاص عن طريق العودة الى النقاء الاول واحياء الصراط المستقيم للسلف الصالح، فكرة المؤامرة، ثقافة الحقد، الرعب من الغزو الفكري او الديموغرافي، واخيراً، وليس آخراً، الخوف من المرأة والجنس، والتشبث بالتراث ويقين الايمان في مواجهة العلم الحديث ولا يقينه.