المرة الأولى التي قرأت فيها نجيب محفوظ كانت في طور المراهقة. أذكر أنني رأيت فيلم"اللص والكلاب"، وخرجت من الفيلم مذهولاً من أن بطله سعيد مهران"اختار"الموت، على رغم الفرص المتاحة أمامه كإنسان، للذهاب إلى طرق أخرى، وحيوات مختلفة، عن تلك التي أرادها بعد خروجه من السجن. كانت السينما الغربية، التي تعرض في صالاتنا آنذاك، تعمم نموذج البطل السعيد المتفوق، الذي يستطيع التغلب على أعدائه جميعاً، ويتحدى المصاعب، وينجح في استحداث تغييرات جوهرية على الأنماط المعيشية السائدة التي يصارعها. وسرعان ما استعرت الرواية، وبدأت قراءتها، وفي القراءة اكتشفت أن سعيد مهران لم يختر حياته، أو موته قط ، بل وجد نفسه في المأزق، أو في مأزق اللاإختيار. وبدا أن كل ما أصابه، رسمه قدر أعمى، لا يرحم. واللافت أنه لم يكن قدراً غيبياً مكتوباً على الجبين، بل هو قدر اجتماعي، ثقيل، وباهظ، ومسدود المسالك. أستطيع أن أقول إن تلك القراءة التي تعود إلى بداية الستينات من القرن العشرين، شكلت قسماً من وعيي الفكري، ومشاغلي الحياتية، وخياراتي الأدبية والفنية. وقد فتنت بنجيب محفوظ، والتهمت، فيما بعد، معظم رواياته، وفي كل قراءة، كان الروائي يضعني أمام معضلة جديدة، ويذهب بي إلى مأزق آخر. وإذا كانت بعض الشخصيات في رواياته تعجز عن اكتشاف" الطريق"، وهذا واحد من أسرار الخلق لديه، فإن القارئ - وهو أنا في هذه الحال - يغويه أن يستقصي الإمكانات اللانهائية المتاحة أمام المعنى الكلي، أو الجزئي للرواية، ويسعده أن يعيد تأهيل النص من جديد، ويقرأ ما فيه وفق الرؤية المكونة لموقفه من الحياة. تملك رواية نجيب محفوظ، تلك القوة النادرة على البقاء، والاستمرار، مثلما يملك الروائي الكبير قوة الحضور الرائد والمؤسس. نجيب محفوظ، أيها المعلم، إننا ننحني إجلالاً، بعد مرورك المهيب!