«كتبت هذا السيناريو، بالاشتراك مع صبري عزت في شكل يحاول أن يقدم تفسيراً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. فما الذي دفع سعيد مهران الى درب الإجرام؟ العوامل الاجتماعية. الفقر بالتحديد هو الذي دفعه الى ارتكاب أولى سرقاته. الفقر الذي جعل من الصعب العثور على القروش التي يشتري بها دواءً لأمه، وما يحتاجه أخوته الصغار. وبالنسبة الينا لم يكن صدفة أن يكون رؤوف علوان، الديماغوجي والانتهازي الأشهر في الأدب المحفوظي، من أصول فقيرة هو الآخر. وفي رأيي أن أهم ما في رواية «اللص والكلاب» والفيلم الذي اقتبسته عنها، هو تلك المجابهة بين الرجلين. أما العناصر البوليسية الجنائية والتشويقية فليست سوى الإطار الخارجي للأحداث». على هذا النحو تكلم المخرج الراحل كمال الشيخ ذات يوم عن واحد من أفضل أفلامه... وهو الفيلم الذي كان، الى جانب أفلام صلاح أبو سيف المأخوذة عن أعمال نجيب محفوظ، من أفضل ما حُقق عن هذه الأعمال. وطبعاً، نحن نعرف أن السينما المصرية - ثم لاحقاً التلفزيون المصري -، وبين هذه وذاك، السينما المكسيكية أيضاً، قد نهلت كلها، في شكل أو في آخر، من أدب نجيب محفوظ. ونعرف أن التوفيق لم يكن حليف كل المحاولات في هذا الإطار. والذنب لم يكن ذنب الروايات نفسها ولا ذنب الذين نقلوها. ذلك ان عملية نقل الأدب الكبير الى الصورة المتحركة، ليست عملية بديهية وقابلة لأن تنجح دائماً... وينطبق هذا، بخاصة، على معظم أعمال محفوظ الكبرى، لكنه ينطبق أقل على روايات محفوظية يكون فيها للمضمون تفوق على الشكل. و «اللص والكلاب» نموذجية في هذا المجال، حيث الأحداث وتحليلها البرّاني تلعب دوراً أساسياً. مهما يكن من أمر، قيل ويقال دائماً إن رواية «اللص والكلاب» التي كتبها نجيب محفوظ في فترة تلت نشره ثلاثيته القاهرية الشهيرة، ثم ظهور «أولاد حارتنا» وإثارة هذه الأخيرة مشاكل عويصة مع الرقابة الدينية، «اللص والكلاب»، تنتمي الى سلسلة روايات محفوظية كتبها هذا الأخير متأثراً أصلاً بالتقطيع السينمائي، ومدركاً محدودية قدرة السينما على الغوص في تيار الوعي الداخلي، وعلى نقل المعمار الفني الذي كان من سمات أدبه الكبير. ومن هنا بدا الأمر في «اللص والكلاب» كما في «الطريق» و «السمان والخريف»، كأنها - في الأصل - روايات سينمائية، أي في شكل أو في آخر: جاهزة للاستخدام السينمائي. ومن هنا نجاح كمال الشيخ في أفلمة هذه الرواية، خصوصاً أن هذا المخرج القدير، كان خلال تلك الحقبة من مساره الفني - النصف الأول من ستينات القرن العشرين - مهتماً بالناحية الاجتماعية، كما بتحليل دوافع المجرمين. وبالتالي كان من الطبيعي له، ليس فقط أن يلتقي ب «اللص والكِلاب» بل كذلك أن يفهم أبعادها كل الفهم، في جوّانيتها وبرانيتها. ومحفوظ لم يأت، على أية حال، برواية «اللص والكلاب» من خياله الخصيب، بل أتى بها من صفحة الأحداث والجرائم في صحافة ذلك الزمن. وهو أمر كان قد بدأ يخوضه ويعتمد عليه، حتى من قبل أن يحوله الى روايات، أي منذ التفت اليه سينمائياً، خلال سنوات الخمسين، حين راح ينهل مما كان يقرأه عن الحوادث المتفرقة، موضوعات لبعض الأفلام التي كتبها مباشرة لصديقه المخرج صلاح أبو سيف، من دون أن تكون لها علاقة بأدبه. أما هنا بالنسبة الى الحادثة الحقيقية التي أعطته موضوع «اللص والكلاب» وحبكتها الرئيسة، فإنه آثر أن يستخدمها روائياً وهو يعرف تماماً أن السينما ستدنو منها بسرعة، لما فيها، أولاً من حسّ شعبي، ثم من آفاق بصرية، وبعد ذلك لما فيها من تحليل، وإن موارب لبعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ولا سيما من خلال شخصية رؤوف علوان، التي أقحمت على الحادثة الأولية، لتعيد خلط أوراق الموضوع وتنأى عن البعد الحدثي، فيصبح العمل كله من نوع النقد الاجتماعي، أي من النوع الذي يمكن أن يجتذب سينمائياً مثل كمال الشيخ، كان يجمع في اهتماماته بين التشويق والتحليل النقدي للمجتمع والانكباب على تحليل السلوك النفسي لشخصياته. ولا شك في أن «اللص والكلاب» أتت لتجمع كل هذا معاً، كرواية وفيلم... علماً أنها تكاد تكون أحد الأعمال السينمائية المقتبسة عن محفوظ، والأكثر أمانة لعمله وأجوائه. إذاً، انطلق نجيب محفوظ في كتابته «اللص والكلاب» من حادثة حقيقية ضجت بها مصر وصحافتها في ذلك الحين. و «بطلها» سفاح يدعى محمود سليمان، لم يتوان بعد خروجه من السجن عن قتل الكثير من الأشخاص، حتى تم رصده في النهاية والقضاء عليه. هذه الشخصية استعارها محفوظ، ثم استعارها منه كمال الشيخ، لتبنى على أساسها شخصية سعيد مهران، الذي وإن كان قد بقي مجرماً في الرواية والفيلم، كما حاله في الحياة الحقيقية، فإن الإبداع حوّله الى حالة جديرة بالدراسة: انه هنا لص صغير عادي تتآمر ذات يوم زوجته نبوية مع مساعده عليش للتخلص منه فيبلغان عنه ويرمى في السجن. وبعد هذا يحتل عليش مكانه ولا سيما في بيته وفي حياة زوجته. وإذ تعلم فتاة الهوى نور بما حدث تزوره في السجن لتخبره بما حدث فيجنّ جنونه، ويقرر الخروج من السجن والانتقام مهما كلفه ذلك... لكنه يتريث ويحسّن سلوكه حتى يخرج بصورة شرعية وقد آلى على نفسه الانتقام من الخائنين... ولكن بعد أن يستعيد أفكاره هو الذي كان يوماً قد تأثر بأفكار رؤوف علوان، الكاتب والمفكر الذي كان ذا آراء سديدة، وجهت سعيد مهران في الماضي في حياته، بل دفعته الى السرقة كفعل تمرد اجتماعي. لقد صار رؤوف خلال سجن سعيد، صحافياً مرموقاً وواحداً من أصحاب السلطة الفكرية - والسياسية - في البلد. وبالتالي يرى سعيد ما إن يخرج من السجن ان عليه أولاً، أن يزور رؤوف كي يسترشد بأفكاره ويساعده هذا الأخير. وهكذا تكون زيارة رؤوف علوان أول خطوة يقدم عليها سعيد مهران لدى خروجه، وهو يأمل أن يساعده رؤوف على ايجاد عمل شريف يؤمّن له عيشاً كريماً، غير أن خيبة أمله هنا تكون كبيرة. ذلك ان رؤوف لا يريد مساعدته ولا حتى التعرف إليه. كل ما في الأمر أنه يعطيه ورقة من عشرة جنيهات ثم يطرده. وهكذا يقرر سعيد ان انتقامه من نبوية وعليش سيمتد ليشمل رؤوف علوان أيضاً. والذي يحدث بعد هذا هو ان سعيد مهران حين يصل الى عليش ويحاول قتله، يفشل في العملية ليقتل رجلاً بريئاً بدلاً منه. ويكون هذا الخطأ محركاً لرؤوف علوان، الذي لم يكتف بتجاهل سعيد وكونه «تلميذاً» له، بل يكتب ما يشهّر ب «المجرم» مطالباً السلطات والمجتمع ب «التخلص منه ومن أمثاله». وتزداد حدة غضب سعيد ويتوجه لقتل رؤوف، لكنه يفشل مرة أخرى. وإزاء هذا الفشل المتكرر، يراجع سعيد نفسه ويحاول ذات لحظة أن يجد العزاء والقدرة على الغفران لدى شيخ صوفي تقي... غير انه هنا يفشل أيضاً، إذ ان هذا الشيخ لم يوصله الى شيء... ما يزيد من حقد سعيد مهران على الجميع، ولكن ليس على الغانية نور التي تكون الوحيدة التي تساعده في محنته وتؤويه لديها هرباً من مطاردة رجال الشرطة له. بيد ان هؤلاء يتمكنون في نهاية الأمر من الوصول الى مخبئه وقتله فيما كانت نور تحاول دفعه الى تسليم نفسه... تلك هي الأحداث التي تحولت اليها، تحت قلم نجيب محفوظ، وأمام كاميرا كمال الشيخ، حكاية مجرم عادي، من الواضح انها لم تعد ذات علاقة على الإطلاق بالفيلم، حيث ان الكاتب، ثم المخرج، استخدما الشخصية بصرف النظر عن تاريخها الخاص، من أجل طرح أسئلة اجتماعية حادة، ومبكرة أيضاً حول المجرم وعلاقته بالمجتمع. ولعل في امكاننا هنا ان نقول، ان هذا الفيلم، الذي حقق عام 1962 من تمثيل شكري سرحان وشادية وكمال الشناوي، كان من أولى الصرخات، التي راح نجيب محفوظ يطلقها في وجه مجتمع كان بدأ يدرك ان التغيرات - الصاخبة - التي كان يعيشها خلال السنوات العشر التي انقضت منذ قيام ثورة 1952 المحملة بالآمال، لم تكن سوى متغيرات من فوق، وانها لا تزال أبعد من أن تطاول بنية المجتمع نفسه وسلوكية أشخاصه. ولعل من الأمور الشديدة الدلالة هنا، ان يكون نجيب محفوظ - وكمال الشيخ بالتالي - قد اشتغلا بقوة على الشخصية المقحمة على العمل ككل: شخصية رؤوف علوان، التي تقدم الينا هنا - وان في شكل موارب - باعتبارها الشخصية الأكثر تمثيلاً للمجتمع «الثوري» الجديد، في بنيته الفوقية. ولم يكن هذا من قبيل الصدفة في سياق الفكر المحفوظي... بل في امكاننا، في شكل أو في آخر ان نقول ان ايجاد شخصية رؤوف علوان واعطاءها كل هذه الأهمية في العمل الإبداعي، انما كانا الحافز الأساس لكتابة هذه الرواية. [email protected]