ربما كانت روايات أغاثا كريستي أكثر رواجاً في بلاد العرب من مجموع روايات نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف ومعهما"دزينة"من نجوم الرواية العربية. ودلالة على ذلك تكفي الإشارة إلى تواتر الطبعات الشعبية من روايات كريستي في بلاد العرب، منذ عقود حتى اليوم. إزاء السؤال عن ذلك، قد يلوّح متذرع أو متذرعة بالثقافة العالمية وبالنخبوية مع قليل أو كثير من الرطانة بالشعبي والجماهيري بروايات إحسان عبدالقدوس أو صالح مرسي أو يوسف السباعي، ثم يصفعنا المتذرع أو تصفعنا المتذرعة بالسؤال المستهزئ المتعالي: وما قيمة كتابة التزجية هذه؟ لكتابة التزجية هذه لدى غيرنا، ولدى ندرة منا، اسم آخر هو: أدب المتعة أو أدب الهامش. وفي صلب أدب الهامش أو أدب المتعة تأتي الرواية البوليسية التي ترسم علامة فارقة في تاريخ فن الرواية، باجتذابها إلى هذا الفن جمهرة أكبر فأكبر من القراء، منذ شاعت مسلسلاتها في الصحف اليومية والأسبوعية في القرن التاسع عشر، فضلاً عن أنها"فرّخت"في القرن العشرين تلك الصناعة البريطانية التي عرفت برواية التجسس، وفيها اتقدت نجوم غراهام غرين وسومرست موم وسواهما. عربياً، يبدو أن الرواية آثرت سبيلاً آخر، لا تخرج عنه إلا عصبة محدودة، منها ما كتب صالح مرسي من الرواية الجاسوسية التي تقوم في صلبها، وبقدر أو أكبر، الرواية البوليسية، كروايته"كنت جاسوساً في إسرائيل"التي تحولت مسلسلاً عنوانه"رأفت الهجان"، وروايته"الحفار". أما السبيل الذي آثرته الرواية العربية، فهو الإفادة بحسبان من الرواية البوليسية التي تعوّل على التشويق والإثارة، وعلى التعقيد والغموض والتمركز حول"البطل". وربما كان الأنموذج الأمثل لذلك هو ما كتبه نجيب محفوظ وغالب هلسا، تأسيساً على ما جرى تداوله عن الاسكندراني محمد سليمان في القاهرة 1961، وهو الذي اشتهر منذ سرقته لفيلا أم كلثوم وغطى لقبه"السفاح"على اسمه. هكذا جاءت رواية محفوظ"اللص والكلاب"عام 1962 بالمثقف سعيد مهران، خارجاً من السجن يتوعد بتسوية الحساب مع زوجته نبوية ومع من تزوجت أثناء سجنه. ومن هذه البداية البوليسية إلى قتل سعيد خطأً للبواب، ثم لشعبان حسين، وبينهما محاصرته، وإعلان البوليس عن مكافأة لمن ييسّر اعتقاله، وسوى ذلك من الأحداث، بدت رواية محفوظ على رغم كل ما دبّج النقد فيها طوال أربعة عقود أقرب إلى ما قاله فيها غالب هلسا، من حيث نظرها الى السفاح بجدية تفوق الجميع، إلى جعلها له لصاً ثوروياً تطارده الكلاب الأثرياء ورجال الشرطة. وقد انتهى غالب هلسا في هذا التقديم لروايته"السؤال"إلى القول:"هذه هي الميلودراما التي قدمها نجيب محفوظ، وقد كان لي رؤية مختلفة". والحق أن إفادة رواية"السؤال"من الرواية البوليسية تبدو أكبر فأكبر من إفادة"اللص والكلاب"، وأدنى ذلك يبدو في عناوين فصول"السؤال"، منذ البداية التي تكتشف فيها الخادمة زكية موت مخدومتها، إلى الفصل الثاني جريمة في الحي الراقي إلى الفصل السادس الغموض ينجلي عن الفتاة الغامضة إلى الفصل الثامن السفاح نجماً... غير أن ريادة هذا السبيل الموارب إلى الإفادة من الرواية البوليسية، قد تكون في رواية إحسان عبد القدوس"في بيتنا رجل"، سواء في عملية الاغتيال التي قام بها إبراهيم حمدي، أم في لجوئه إلى بيت محيي، ومطاردة البوليس للمتخفي، والتلويح بخمسة آلاف جنيه مكافأة لمن يساعد في القبض عليه، وتهديد من يؤويه أو يعينه، وصولاً إلى خروجه من بيت محيي، فمصرعه. ويمكن المرء أن يذكر في هذا الصدد أيضاً رواية إبراهيم عبدالمجيد"ليلة العشق والدم"1982، والتي تبدأ بقتل دومة لحسن المعداوي في عزاء والد الراوي فؤاد الهارب منذ عشرين سنة من الإسكندرية، وهو الحدث الذي سيعود إليه فؤاد، ناسجاً حبكة الحدث كما يليق بالرواية البوليسية، ومهمشاً للبوليسية بمفردات الرواية غير البوليسية، في آن واحد، كما هو العهد بالرواية العربية بعامة، مما نجده في رواية غادة السمان"ليلة المليار"1986، حيث توقّع للرواية عبارة يعرف أنهم يطاردونه، كما تأتي محاولة اغتيال أمير النيلي في جنيف، ومصرع رغيد الزهران ليلة الاحتفال بالمليار الأول. وستتقاطع بعض هذه العناصر في رواية غادة السمان مع رواية بهاء طاهر"الحب في المنفى"1995. في السنوات القليلة الماضية تواتر صدور عدد من الروايات البوليسية العربية وعدد من الروايات التي تسلك فيها البوليسية إلى الرواية سبيلاً موارباً. فمن الفئة الأولى جاءت في مستوى أدنى روايتا اللبنانية مها محمود طيارة"الوجه الثالث للحب"والسعودي نايف الصحن"النساء قادمات"بخلاف المستوى المحترف الذي جاءت فيه رواية التونسي"في مكتبي جثة"ورواية السوري المرحوم ممدوح عدوان"أعدائي". وإذا كانت الأخيرة قد ضارعت إفادة روايات صالح مرسي من الجاسوسية وهي تعود إلى نهاية الحرب العالمية الأولى بين فلسطين وسورية ولبنان، وتنظر إلى بداية الصهيونية في مطلع القرن العشرين بمنظار نهايته، فقد جاءت شواغل الروايات الأخرى من نهاية القرن ذاتها، وفي مقدمها الإرهاب. في الفئة الثانية، حيث السبيل الروائي الموارب للبوليسية، جاءت رواية صنع الله إبراهيم"أمريكانلي"عبر الرسائل الغامضة التي يتلقاها الراوي من XXX، فتواعده رسالة وتخلف الميعاد، وتُرفق رسالة بزنبقة، وتحدد ثالثة موعداً جديداً بعد اعتذار غامض، ولا تشير رسالة إلى جنس المرسل / المرسلة. وسيدفع ذلك بالراوي إلى السؤال عما إن كان خلف هذه اللعبة الملغزة الموساد أو السي آي إيه؟ وهل تهدف إلى توريطه بأمر ما؟ هل تمهد لفضحه بالتحرش الجنسي أم تراها مزحة ثقيلة من عابث أو مخبول؟ وإذا كان أخذ يستمتع بهذه اللعبة وإحداها جاءت جنسية بقلم امرأة فهذه البوليسية تتعزز بالمكالمات المجهولة التي أخذ الراوي يتلقاها، لكن كل ذلك لا يهوّن من مجانية الفعل البوليسي في الرواية، فلو لم يكن البتّة لما خسرت الرواية شيئاً، بل لعلها ستكون قد تخففت مما لا طائل منه. وفي هذا السبيل أيضاً تأتي رواية إلياس خوري"يالو"مثلها مثل روايته"رحلة غاندي الصغير"ومثل الكثير من روايات الحرب الأهلية اللبنانية. فإذا كانت البوليسية ستلوح في رواية"يالو"منذ السطر الثاني:"وقف الشاب أمام المحقق وأغمض عينيه"، وإذا كانت ستعزز البوليسية بالمخفر والتحقيق والفتاة التي لا اسم لها وصيد يالو لطرائده من السيارات واتهامه بعصابة المتفجرات... فالرواية تهشم الالتباس بالتفسير، والغموض بالملخص السردي، والتشويق بالاستباق. من المعتاد أن يفاجئ كاتب الرواية البوليسية قارئه بألغاز اختفاء شخصية مهمة، أو تلفيق أدلة لإدانة شخص بريء، أو اكتشاف تواطؤ غامض بين المجرم ومسؤول مجهول... تخرجه من طمأنينته، ولا ينجلي اللغز إلا في نهاية الرواية. وليس ذلك غير"التشويق"كما ينصّ لطيف زيتوني في"معجم مصطلحات نقد الرواية"، بعدما يبيّن أن التشويق حالة انتظار أو قلق متولدة من الخوف أو الخطر أو الشك، تكون عابرة أو متواصلة إلى نهاية الرواية، ومقتصرة على شخصية واحدة، أو تكون جواً عاماً يزداد حدة بمقدار ما تتطلب العقدة ويصعب توقع الحل. ولذلك يرى لطيف زيتوني أنه يمكن الأخذ بتعريف الناقدين بكسن وغينز للتشويق على أنه الانتظار المفعم بالشكوك إلى نهاية الحبكة. غير أن الأهم في صدد ما بين الرواية العربية والرواية البوليسية، هو ما يمضي إليه لطيف زيتوني، من أن التشويق ليس سمة الرواية البوليسية وحدها"فالرواية عموماً تسعى إلى كسب اهتمام القارئ بدفعه إلى طرح الأسئلة من دون أن توفر له فوراً مادة الجواب. هذه الأسئلة تنتمي إلى نمطين، سببي من الفاعل؟ وزمني ماذا سيحصل الآن؟. الأول تمثله الرواية البوليسية التقليدية، والثاني تمثله رواية المغامرات. أما الأنواع الأخرى فتأخذ بنصيب من كل نمط، أو تجمع بينهما بحسب الحاجة". ولئن كان ذلك يرسم السبيل الموارب للرواية العربية إلى الرواية البوليسية، فما لا ينبغي إغفاله، هو أن هذا السبيل ينوء تحت ما ينوء به الكاتب والقارئ من وطأة القضايا الكبرى والنكد والجهامة والجدية، و / أو وطأة تفشي الأمية وندرة وقت التزجية والمتعة ومعوقات انتشار الكتاب... وعلى رغم وجاهة ذلك كله، للمرء أن يسأل عما ينوء تحته العيش العربي من السرقة والقتل والاغتصاب والمؤامرات والجاسوسية وشتى أنواع الجرائم، كما للمرء أن يعود إلى السؤال عن انتشار روايات أغاثا كريستي. فهل يكون السر في الموقع الرائد والنبوي والمتعالي الذي اختارته غالباً الرواية العربية؟ وهل للمرء أن يتوقع خلخلة هذا الموقع، بالاطراد مع تراجع الأمية ومعوقات القراءة، ومع تنامي فسحة المتعة والتزجية في العيش العربي الذي تتفجر فيه ينابيع الرواية البوليسية؟ ولئن كانت الرواية البوليسية عربياً، مثل خبز الشعير: مأكول مذموم، فهل ستكون ذات يوم مثل خبز الحنطة؟