مطلع الاربعينات انفجرت في الهند سلسلة أزمات داخلية كان العنف الأعمى أحد أسبابها الظاهرة. وأطلقت الصحف في حينه على القطارات مصطلح"القبور المتحركة"لكثرة ما سقط فوق مقاعدها من ضحايا تناوب الهندوس والمسلمون على قتلهم. وهكذا استمرت الفتنة في تغذية حركة انفصال باكستان التي تمت بتشجيع من البريطانيين في آب اغسطس 1947. قبل الوصول الى مرحلة الانشقاق الجغرافي والديني، تدخلت الجمعيات الاسلامية مع الزعيم الهندي المهاتما غاندي، من أجل وقف المجازر اليومية. وكانت صورة غاندي، قائد حركة المقاومة السلمية ضد الانكليز، قد انتشرت في العالم كأسطورة حية للمواجهة غير المتكافئة بين الماعز والمصفحة. وفي آخر لقاء مع غاندي، تمثل لبنان بالمرحوم تقي الدين الصلح الذي أطل على الساحة السياسية في سن مبكرة. افتتح الاجتماع رئيس وفد"العصبة الاسلامية"بالقول ان الأعمال الانتقامية التي يمارسها الهندوس ضد المواطنين المحمديين تبعث على الخوف والقلق. وأكمل الشكوى بتعداد الأحداث الدموية، مكرراً ذكر المخاوف التي افرزتها الأحداث الدموية ضد الاقلية المسلمة. وعلق غاندي على كلامه بلهجة الاستغراب متسائلاً: أليس من المسيء للانسان بأن يخاف؟! وصمت كل أعضاء وفد الشيوخ والأئمة، وامتنعوا عن الدخول مع غاندي في جدل حول الموضوع الذي جاؤوا من أجله. وفجأة وقف الشاب تقي الدين الصلح ليرد على ملاحظة زعيم الهند بملاحظة اعتراضية ويقول: يا سيدي، أنا آت من لبنان... من بلد عُرف بتعددية طوائفه. وقد أدركنا عبر التجارب المريرة، انه ليس اسوأ من الذي يخاف غير الذي يخيف! عندئذ فقط ظهر خلال الاجتماع الرابط الذي سمح بمراجعة مشكلة القتل على الهوية، الأمر الذي أعاره غاندي بعد ذلك أهمية قصوى. عقب التجمع الحاشد الذي شهدته الضاحية الجنوبية أثناء الاحتفال"بالانتصار الإلهي"، ظهرت على الساحة اللبنانية أعراض مرض خوف جماعي، خصوصاً بعدما أعلن السيد حسن نصرالله، نقل المعركة السياسية المقبلة من الجنوب الى بيروت. وكان واضحاً ان الجماهير التي استقدمت من داخل لبنان وخارجه، لم تكن مدعوة للمشاركة بالنصر التاريخي فقط، وانما لإظهار تأييدها لكل الطروحات التي عرضها الأمين العام في خطابه، اي الطروحات التي اختصرت مواصفات الدولة اللبنانية، كما يراها نصرالله، قوية وعادلة ونظيفة ومستقلة ورافضة لأي وصاية أو هيمنة أجنبية. في هذا السياق، أعلن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تحبيذه لكل المواصفات التي أطلقها السيد حسن نصرالله، على الدولة"اليوتوبية"المطلوب انشاؤها. ولكنه ذكره باختبارات سابقة للتدليل على ان وصاية سورية على"حزب الله"كانت أثقل بكثير من اقتراحات السفراء الأجانب. ومن هذه الاختبارات عرض كان قد تقدم به عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وملخصه ان يصار الى تأجيل الانتخابات النيابية والاتفاق مع سورية على اختيار رئيس وفاقي يحل محل الرئيس اميل لحود. وبعد اقتناعه بالفكرة توجه نصرالله الى دمشق لعرضها على الرئيس بشار الاسد، ومن أجل تخفيف حدة التوتر القائم في لبنان، اقترح ايضاً استقبال وليد جنبلاط بهدف تجديد التعاون وتحاشي مضاعفات الأزمة. وتظاهر الدكتور بشار أنه لا يعارض حلاً يرتأيه نصرالله، ولكنه في الوقت ذته رفض استقبال جنبلاط، وأحال أمره الى رستم غزالي، وبما ان نصرالله كان مقتنعاً بصوابية هذا المخرج السياسي، فقد عرض على جنبلاط لقاء رستم غزالي في منزله. وكان من الطبيعي ان يرفض جنبلاط الاجتماع بشخص اتهمه بنسف علاقاته مع سورية. وهكذا سقط أول اقتراح قدمه جنبلاط لتعبيد الطريق مع سورية، معتبراً ان"حزب الله"ليس حراً في خياراته اللبنانية إذا كان الأمر يتعلق بمواقف سورية أم ايران. وفي رأيه، ان الذي يدفع ملايين الدولارات ولو من موقع الدعم المادي لمشروع"حزب الله"الاجتماعي - العسكري ، لا بد وان يفرض سياسته الخاصة في لبنان. والدليل - كما تقول جماعة 14 آذار - ان طهران تتدخل في الشأن اللبناني الداخلي عن طريق تمويلها ووصايتها على مؤسسة طائفية عسكرية. وهي حالياً تدعو الى تأليف حكومة جديدة، والى اجراء انتخابات جديدة، انسجاماً مع موقف السيد حسن نصرالله المعارض لموقف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. ولكن"حزب الله"يرفض هذا التفسير الخاطئ الذي يساوي بين تدخل اميركا وتدخل ايران. ذلك ان الأولى تساعد اسرائيل على احتلال لبنان، في حين توفر طهران القوة اللازمة لمؤازرة المقاومة اللبنانية على طرد المحتل الاسرائيلي وإلحاق الهزيمة بقواته. في رد"القوات اللبنانية"على مهرجان"حزب الله"، أثار الدكتور سمير جعجع مسألة الاتفاق على موضوع استرجاع الوحدة الوطنية قبل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وذكر في خطابه ان مقاومة القوات ستبقى سلمية الى ان يستعيد لبنان توازنه المفقود. وكان باستخدام كلمة"سلمية"يريد تأكيد التزامه بنود اتفاق الطائف التي تحظر اقتناء السلاح خارج سلطة الدولة. وأعلن بالمناسبة ان محازبيه سقطوا من أجل حماية لبنان ضد مخاطر التوطين وقيام الوطن البديل. ورأى الحاضرون في إثارة هذه المسألة الحساسة، اشارة واضحة الى خروج"حزب الله"من عضوية النسيج الوطني اللبناني الذي ضمن التوازن السياسي الدقيق ل18 طائفة. وعليه تصور المنتقدون ان"حزب الله"ارتضى قانون التوافق الوطني عن طريق بناء الدولة بواسطة نوابه ووزرائه. ولكنه في الوقت ذاته، احتكر مجمل القرارات الخاصة بالدولة والجيش، خصوصاً عندما شن الحرب ثم حمّل حكومة السنيورة تبعاتها الانسانية والاقتصادية والادارية. ومع هذا كله، فقد سارع فؤاد السنيورة الى تسخير حكومته من أجل حماية سلاح"حزب الله"في وجه الشرعية الدولية، معتبراً أن هذا الشأن الداخلي خاضع للحوار بين اللبنانيين. ومن هذا المنظور يعتبر الوزير مروان حماده، ان اهمال شروط اتفاق الطائف في خطاب السيد حسن نصرالله، كان أمراً متعمداً للقفز فوق معايير العيش المشترك ومبادئ الميثاق الوطني. ويرى كثيرون ان مثل هذا التجاوز اسقط لبنان في مطبات مختلفة بدأت باستئثار الرئيس كميل شمعون بقرار الانحياز الى تيار حلف بغداد ضد التيار الناصري، الأمر الذي انتهى بتصحيح المسار عبر ثورة 1958. ثم حدث الخلل الآخر يوم وظفت الطائفة السنية شعبية المقاومة الفلسطينية لجني مكاسب اضافية انتهت باندلاع حرب 1975. واستخدمت الكتائب والمنظمات المسيحية المتطرفة هاجس اقامة الوطن البديل، كي تبرر انحرافها عن خط التوازن الداخلي والتوافق الوطني. وكانت النتيجة سقوط المشروعين معاً، وإعادة ترتيب الوضع بواسطة اتفاق الطائف. من هنا القول ان استفراد الطائفة الشيعية بقرارات الحرب والسلم يمكن أن يغذي مخاوف المسيحيين والسنة بطريقة يصعب لجم معارضتها. خصوصاً اذا شعر الفريقان بأن"حزب الله"يوظف انتصاره الكبير ضد اسرائيل من أجل الحصول على مكاسب داخلية توسع نفوذه في مناطقهما. المراقبون للوضع اللبناني ينظرون الى موقف الدكتور سمير جعجع من خلال معارضته للنائب العماد ميشال عون، وليس من خلال خوفه من تهديدات"حزب الله". ويرى جعجع ان تحالف عون مع نصرالله، جرد الكتل المسيحية الأخرى من أهم قواها السياسية والشعبية، كما أعطى"حزب الله"هامشاً من الحضور الوطني حقق له الانتشار في كل المناطق. ثم جاءت الحرب الأخيرة لتوسع حجم هذا الهامش الذي ظهر في الخدمات الانسانية والاجتماعية التي تولت رعايتها هيئات وشخصيات نافذة من أمثال ميشال عون وسليمان فرنجية. الرئيس السابق امين الجميل أصغى باهتمام الى خطاب جعجع، لأنه تذكر أحداث صيف 1988 عندما اتفق معه على عرقلة حظوظ ميشال عون ومنعه من الوصول الى رئاسة الجمهورية. كما تذكر معارك شباط فبراير 1989 يوم اندلع القتال بين الجيش اللبناني بقيادة عون والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع. واطلق عون شعاره الشهير"لا للدويلة ونعم للدولة"مطالباً خصمه بضرورة وقف الجبايات المالية وتسليم الحوض الخامس من مرفأ بيروت للشرعية التي يمثلها. وبقية القصة معروفة إذ انتهى ميشال عون في منفاه الباريسي، بينما دخل الدكتور جعجع بعد فترة الى السجن الانفرادي. بعد خمس عشرة سنة تقريباً، عاد الصديقان اللدودان ليشتبكا بنزاع سياسي أين منه ضراوة النزاع العسكري. ففي آخر الثمانينات اعتمد العماد عون على صدام حسين لحمايته من سورية، ومساعدته على الوصول الى رئاسة الجمهورية. ثم عاد من المنفى باختبارات جديدة دفعته باتجاه دمشق وحالفته مع"حزب الله". وهو حالياً يتعرض لانتقاد جعجع والهيئات المارونية التي رأت في مشاركته"حزب الله"نقضاً لتسوية اضعفت نفوذ الذين راهنوا عليه في الانتخابات. والملفت ان"حزب الكتائب"استفاد من هذه المعركة الصامتة ليجر الى صفوفه مئات الشبان في المهاجر والوطن، ممن تخلوا عن تيار عون لأسباب تتعلق بتخليه عن الدولة والتحاقه بالدويلة. في مواجهة هذه الحملة، أصدر تكتل"التغيير والاصلاح"النيابي برئاسة ميشال عون بياناً، حذر فيه"الحكومة الفئوية من تجاوز القواعد البديهية لانتاج السلطة وفي مقدمها، الافراج عن قانون الانتخاب الجديد واجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة تنبثق عنها حكومة ذات صفة تمثيلية حقيقية تشكل المرجعية الصالحة لمعالجة كل الأزمات". ويستفاد من مراجعة هذا المطلب السياسي ان عون يلتقي بالحل مع طروحات السيد حسن نصرالله. في الأيام الأخيرة من هذا الاسبوع اختلطت الأوراق السياسية بطريقة غير متوقعة، خصوصاً عندما هاجم النائب سعد الحريري خطاب أمين عام"حزب الله"الذي دعا فيه الى تغيير الحكومة. واتهمه بأنه يطمح الى وضع اليد على رئاسة الحكومة مثلما وضع يده على رئاسة الجمهورية. وقد أوحى بهذا التعبير ان"حزب الله"يريد الاستيلاء على السلطة المعطاة للطائفة السنية، مثلما استولى على السلطة المعطاة للموارنة، الأمر الذي يؤمن له الهيمنة على مختلف سلطات الدولة. ومع ان خطاب سعد الحريري في ظاهره يلوح بأنه داعم لموقف ممثل"تيار المستقبل"الرئيس فؤاد السنيورة، الا انه في العمق يفسر كمعرقل للمساعي الآيلة الى رفع"الفيتو"عن زيارته لدمشق. وبسبب الاختلاف على التأويل، يردد السنيورة في صلاته بعد الافطار: اللهم احمني من اصدقائي، اما أعدائي فأنا كفيل بهم! * كاتب وصحافي لبناني