تعوّد حمل قناعه حيثما يذهب، يغادر خلسة من دون أن يلحظه أحد، صامتاً حزيناً يخطط، كما في كل يوم، لخيانة جديدة... كان سريع الخطوات، ثابت الحركة، يتقمص نظرات بريئة حتى يجتاز آخر زاوية تخرجه من حارته، فينعطف الى منطقة نائية، يخلع قناع وجهه البريء فيها ليظهر الشرس منه، فيبدأ نهاره بالبحث. يضرب قطة تموء جوعاً في الطريق، ويركل كل ما هو صامت على أرض حارّة، يعفّرها قاصداً، غاضباً من اللاشيء، صارخاً متذمراً بأعلى صوته: اللعنة، اللعنة، اللعنة... يبحث في القمامة عن شيء يأكله، يحطم الزجاجات الفارغة، ينبش في محتوياتها، ويتركها للريح تتناقلها كما تشاء، حتى تصل الى النهر. يبحث عن وجهه الساقط في المياه الجارية، لا يجده! تغادره المياه بسرعة فائقة، تتهرب منه، أو ربما تسحبه معها! يشرب من مياه النهر العذبة، وحين يرتوي يبصق فيها، لاعناً، ناكراً. يستمر في طريقه، بمحاذاة النهر، كي يجده! أي وجههُ، يطارده والمياه سائرة تأبى انتظاره، تجرف كل ما تجده في طريقها، حتى ظلال الغيوم المتطايرة في السماء. يتوقف مشدوهاً أمام لوحة جميلة ترتجف لها المياه، في يوم صاف ونهار هادئ، وجه امرأة تصغي الى الهدير، تراقب النوارس، تنتظر كل شيء جميل وتطلب الأجمل. حالمة، صامتة، مسترخية، مرتاحة وصافية التعابير، تلبس الابتسامة على وجهها. لا حاجة الى أحمر الشفاه، فالفم الجميل يخلق مصقولاً بالجمال. لا تدع النهار يفوتها، كل يوم على الحال ذاتها، تبقى حتى حلول الليل، تنتظر غروب الشمس كما الشروق، وإن حلّ المساء تحتفظ بابتسامتها الواسعة التي تضيء العتمة. لم يعرف سبب مكوثه كثيراً أمام هذه اللوحة النادرة، ولمَ تتجاهله! وقعت عيناه على حقيبة نقودها، جاءهُ الفَرَج، ربما يكون رزق اليوم غنياً؟ اقترب منها، مدّ يده كي يلتقط المحفظة فإذا بها تبدأ بالغناء، تغني بأعلى صوتها وابتسامتها الواسعة تحتل وجهها الناعم. صمتت الكائنات أمام صوتها العذب، الذي اخترق الفضاء وملأهُ ألحاناً، الصدى الواسع دلالة السكون، والصمت الممتد برهان قاطع على الرحيل، فكل الكائنات اوت الى مخادعها، حينها أيقنت أن ساعة الرحيل قد حانت. تستنشق الهواء العليل للمرة الأخيرة، تتحسس الأرض بلطف، تحك الحجارة بأناملها كي تهتدي على الطريق، وتغادر بحذر. ارتجفت أوصاله وانكسرت نظراته أمام عينيها المتجمدتين، تسارعت نبضات قلبه، بحث عن قناع البراءة، لم يجده، عن قناع السذاجة، توارى! عن قناع البلاهةِ، اختفى! عن قناع الشجاعة، هرب منه... ينظر الى السماء مستنجداً. اللعنة، اللعنة، اللعنة. دينا سليم - استراليا - بريد الكتروني