رحلة لوتشيان براغا عظيمة، لأنه خاضها وحيدا وأعزل نحو الموت لا يملك سلاحا سوى الكلمة الغامضة والصامتة. يقول لوسيان بلاغا «إن طريق الشاعر تؤدي دائما إلى المنابع». ويبدو أن لجوءه في لغته إلى عالم القرية القديمة الأسطورية، هي تلك الطريق التي اقتفى آثار الأسلاف على ترابها وفي تاريخها ومخيالها. يبدو أن لوتشيان كان يبحث بذلك عن نوع من الامتلاء الروحي والإشباع الحيوي، لمواجهة وابل الحزن والقمع وعواصف الشك في قيمة الإنسان حينما يتعرض للاضطهاد والإهانة. شعره خافت بحكمة من يصغي إلى رعشة الإلهام والأسرار. يتأمل الصمت وينظم زفرات كونية وميتافيزيقية. يحدس المعنى الخفي للأشياء والحياة. لوتشيان بلاغا صامت كبجعة في وطنه ثلج الكائن الذي تحتله الكلمات وروح تسعى لكشف صامت عن الأصالة منذ الأبد إلى الحدود النهائية يبحث لوتشيان عن الماء حيث قوس قزح ليرتشف جماله وعدمه. ولد الشاعر الروماني الكبير لوتشيان بلاغا في 9 مايو 1895 في قرية لانكرام الرومانية التابعة لمقاطعة ترانسيلفاني. وتوفي في 6 مايو 1961 في مدينة كلوج برومانيا. تأثيره واضح في الثقافة الرومانية. فيلسوف وشاعر ومترجم وصحافي وأستاذ جامعي روماني. في سنة 1948 سيطرد من الجامعة والأكاديمية الرومانية لرفضه دعم النظام الحاكم في رومانيا. فأخرجت كتبه العديدة من المكتبات العامة والخاصة ومنع من النشر ما بين سنة 1949 و1959. بعدها سيشتغل كباحث في معهد كلوج للتاريخ والفلسفة ثم محافظا لمكتبته. سيسمح للوتشيان بنشر ترجماته مثل ترجمته لفاوست إلى الرومانية عام 1955. ثم سيعتقل ويعيش حياة العزلة في السجون الرومانية. إلى درجة أنها مارست ضغوطات جبارة على الأكاديمية السويدية للحيلولة دون نيله جائزة نوبل للآداب 1956 التي كان مقررا له الحصول عليها، لكن الأكاديمية رضخت بجبن للمبعوثين الرومانيين الذي تهاطلوا على الأكاديمية لمنعهم من منحها للوتشيان. وحصل عليها في المقابل رامون خيمينيث. سيعيش لوتشيان حياة مهمشة بين المنع والاعتقال إلى أن وافته المنية جراء السرطان عام 1961 بمسقط رأسه قرية لانكرام. سيفرج النظام الروماني مع بداية استقلاله التدريجي من سيطرة الاتحاد السوفييتي عن مؤلفات لوتشيان براغا، ليصبح اليوم أعظم شاعر روماني. من بين دواوينه الشعرية: «خطوات النبي» و«عصر الحديد» و«وما يسمعه وحيد القرن»، وله في المسرح والمقالة والدراسات أكثر من ثلاثين كتابا. جراح سرية بجراحنا السرية نعبر مائة عام مستنزفين نادرا ما نرفع أعيننا إلى شواطئ الجنة الخضراء نخفض رؤوسنا الأكثر حزنا السماء مقفلة والمدن محكمة أمامنا عبثا تأتي الغزلان لتشرب من أيدينا، ودون جدوى تجثو الكلاب أمامنا وحيدون في منتصف الليل يائسين الأصدقاء الذين يرافقوننا يشربون من أجل الدفء وينشرون نظراتهم على الأشياء حاملين الأغاني فقط تحت التربة السوداء للسماء، وأمام البوابات المغلقة يقتلنا الشعور بالوحدة. سيرة ذاتية لا أعرف في أي مكان أو زمان سيسطع نوري وحيد في العتمة أحاول إقناع نفسي أن العالم أنشودة أبدي الدهشة وابتسامة غريبة لصعود سحري أحيانا أقول كلمات لا أملكها وأحيانا أحب أشياء لا تناسبني عيناي مملوءتان بالرياح والأحلام المنتظرة أمشي مثل الآخرين أحيانا مذنب فوق سطوح الجحيم وأحيانا بريء فوق جبال الزنابق منعزل داخل الدائرة الأسرية نفسها أتبدل الأسرار والأسلاف شعب تحت حجارة مياه صافية في المساء يحدث أن أصغي لأعماقي إلى الفيض المستمر لحكايات الدم الغابرة أبارك الخبز والقمر أعيش النهار مرتجا بالعاصفة أردد كلمات مطفأة غنيت وما زلت أغني العبور الأكبر سبات العالم وملائكة الشمع ودون كلمات أمرر نجمتي من ساعد إلى ساعد كوزر ثقيل. صمت بين الأشياء القديمة الشمس الساطعة تحمل ما تبقى من اليوم تطل على المياه السفلية عابرة فوق الدواب الهادئة تنظر بلاخوف إلى صورتها على صفحة الأنهار والأشجار تغلق أوراقها البعيدة على تاريخ طويل وسحيق لا شيء يريد أن بخلاف مظهره دمي فقط يصرخ بين الأدغال خلف طفولة قديمة كأيل عجوز يبحث عن ظبيته الهالكة ربما ماتت تحت الصخور وربما ابتلعتها الأرض أنتظر بلا جدوى عودتها الكهوف وحدها ترجع صداها والجداول تهدر أعماقها دم صامت يا ليت الضوضاء تتوقف، لنسمع خطو الظبية بين الأموات. أخطو بتردد كقاتل يكمم صراخ المهزوم أغلق بيدي المنابع كلها كي تصمت وتصمت إلى الأبد. إلى القارئ هنا بيتي، وهناك الشمس وحديقة النحل إذا عبرت ونظرت من بين قضبان الباب انتظر حتى أحدثك. من أين سأبدأ؟ صدقوني، صدقوني، يمكن أن نتحدث عن كل شيء وأي شيء: عن مصير، ثعبان الخير، عن رؤساء الملائكة وهم يحرثون حدائق الرجال، والسماء التي نوجه إليها الكراهية والفشل الأحزان والتضحيات وفوق كل شيء، العبور العظيم. لكن الكلمات ليست سوى عبرات للذين طالما رغبوا البكاء، لكنهم لم يتمكنوا كم هي حزينة هذه الكلمات لهذا، اسمحوا لي أن أمشي بصمت بينكم، وأهب للقائكم بعينين مغمضتين. رجل ينحني أنا أنحني لا أدري هل أنا فوق البحر أم على حافة فكرة عقيمة؟ لا أدري روحي تتدحرج إلى الأعماق كخاتم ينزلق من أصبع أهزله السقم أسرعي، يا أيتها النهاية. وانشري رمادك فوق الأشياء جميعها. لم تعد العواصف تصيبني بالدوار ولا المسافات تنتظرني. أسرعي، أيتها النهاية انحني مرة أخرى ومن الانبطاح أنتصب واقفا أصيخ السمع إلى مياه ترتطم بالضفة الأخرى ولا شيء، غير هذا، لا شيء.