يبدو أن الإدارة الأميركية كانت تنتظر حدثاً مهماً في المنطقة يفتح أمامها الطريق لطرح مشروع قديم - جديد يمكنها من إبعاد الأنظار عن النتائج الكارثية التي ترتبت على احتلالها لكل من العراقوأفغانستان. وجاء أسر الجندي الإسرائيلي في قطاع غزة ليفتح الباب مواربة أمامها، أما أسر الجنديين الإسرائيليين في الجنوباللبناني فقد فتح الباب على مصراعيه لاندفاع هذه الإدارة نحو خلط الأوراق والعودة من جديد الى مشروع استراتيجي كبير وخطير أخذ يتبلور في أذهان المحافظين الجدد، الذين استوطنوا هذه الإدارة وحولوها إلى أكثر الإدارات الأميركية تطرفاً وعدوانية. ميدان المشروع هو الشرق الأوسط، وإن اختلفت التسمية من الشرق الأوسط الكبير إلى الشرق الأوسط الجديد، الذي يمتد من موريتانيا في الغرب إلى أفغانستان في الشرق ليشمل الى جانب الدول العربية كلاً من إسرائيل وتركياوإيران وباكستان. المشروع ليس بالجديد، وهو على أي حال لم يكن مشروعاً أميركياً خالصاً، أي أنه ليس من اختراع المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية وحدهم، فقد سبقهم الى التفكير فيه قادة إسرائيليون كان أبرزهم وأهمهم على الاطلاق شمعون بيريز. مشروع بيريز لم يكن بهذا الاتساع، فالرجل كان يدرك أن إسرائيل لا تقوى على حمل مشروع من هذا النوع. مشروع الشرق الأوسط الجديد عند شمعون بيريز كان فكرة تبلورت عام 1993 تدعو الى جمع دول المنطقة في سوق مشتركة وإلى دمج إسرائيل فيها. إنه مشروع بديل للجامعة العربية، هذا ما أوضحه بيريز في كتابه آنذاك بصورة مضمرة وبصورة صريحة في مقابلة له مع"فصلية الشرق الأوسط"نشرت في آذار مارس 1995، قال فيها:"اعتقد أن جامعتهم أي الجامعة العربية يجب أن تتحول الى جامعة الشرق الأوسط. نحن أي الإسرائيليين لن نصبح عرباً، ولكن الجامعة يمكن أن تصبح شرق أوسطية، بعد أن أصبحت الجامعة العربية جزءاً من الماضي". كلام خطير يؤشر إلى نيات لا تخفى على أحد، وهدفها واضح ومحدد لا يقتصر على تشكيل هوية جديدة للمنطقة، بل على إعادة رسم أدوار دولها، على أساس موقعها ووزنها في النظام العالمي الجديد بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومة الدول الاشتراكية، أو بعد النصر الذي أنجزته الولاياتالمتحدة في الحرب الباردة. في هذا السياق نعيد إلى الأذهان موقف الوفد الإسرائيلي الى المؤتمر الاقتصادي حول الشرق الأوسط، الذي انعقد في الدار البيضاء عام 1994، والذي طالب مصر تحديداً بتسليم لواء القيادة في الشرق الأوسط إلى دولة إسرائيل بعد أن فشلت مصر في قيادة المنطقة على حد تعبيره، وهو ما أثار في حينه حفيظة مصر واعطى مؤشراً واضحاً إلى مشروع تدعو له إسرائيل وترعاه الولاياتالمتحدة قبل سيطرة المحافظين الجدد على الإدارة الأميركية الحالية. بغطاء اقتصادي كان يجري تسويق مشروع سياسي خطير في الشرق الأوسط من البوابة الإسرائيلية. مؤتمرات عدة عقدت من أجل ذلك في الدار البيضاء وعمان والقاهرة وقطر، وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية لتساهم في اغلاق تلك البوابة ولتدخل المشروع في طور الكمون، الى أن عاد بثوب جديد بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 الإرهابية، التي أعطت مزيداً من الذرائع للإدارة الأميركية بقيادة تيار المحافظين الجدد لإعادة انتاج المشروع في إطار استراتيجية عدوانية للهيمنة على المنطقة الممتدة من موريتانيا إلى أفغانستان ومن أجل تطويق كل من الصين الشعبية وروسيا الاتحادية. في هذا الإطار يجب الانتباه جيداً الى الجهود الحثيثة المتواصلة التي تبذلها الإدارة الأميركية لتوسيع نطاق نفوذها في دول أوروبا الشرقية على تخوم روسيا الاتحادية وجمهوريات آسيا الوسطى، السوفياتية سابقاً، وعلى تخوم الصين الشعبية وروسيا الاتحادية معاً. ركب المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية موجة عالية من التطرف في الدعوة الى فرض مشروعهم للشرق الأوسط وألبسوه ثوباً جديداً بعد الحرب العدوانية التي قادوها ضد أفغانستانوالعراق، وما ترتب عليها من احتلال عسكري للبلدين. العراق، بشكل خاص، تحول بعد الاحتلال الى منصة انطلاق للنهوض بالمشروع وذلك للتغطية على أهداف ذلك العدوان. ومن هنا جرى تسويق تلك الحرب بعنصر اضافي جديد، فعشية الحرب على العراق أعلن جورج بوش في 26 شباط فبراير 2003 أمام مؤسسة الأبحاث الأميركية، وهي مؤسسة استعار منها لإدارته عشرين من المحافظين الجدد وأصدقاء إسرائيل، أن طموحه ليس فقط نشر الديموقراطية في العراق، بل تحويله الى نموذج يحتذى في الشرق الأوسط الكبير. ومن أجل اضفاء بعض المصداقية على المشروع وأهدافه، استنجدت الإدارة الأميركية بتقرير التنمية البشرية العربية، الذي صدر في صيغته النهائية في تموز يوليو 2003، وهو تقرير دعا فيه عدد من المثقفين والخبراء العرب الى تشجيع الديموقراطية في المنطقة، وإلى بناء مجتمعات معرفة في البلدان العربية والى توسيع الفرص الاقتصادية وبناء اقتصادات عربية تواكب التطور الهائل في الاقتصاد العالمي وتوفر فرص العمل لعشرات الملايين في السنوات القليلة المقبلة. واتخذت الإدارة الأميركية من نشر الديموقراطية في المنطقة ستاراً لبناء نظام أمن اقليمي يخدم المصالح المشتركة لكل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. فقد استبعد المشروع من جدول أعماله أية جهود للتسوية السياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والعربي - الإسرائيلي. لسان حال هذا المشروع كان يقول إن حل الصراع في المنطقة ووضع حد لاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينيةواللبنانية والسورية يمكنه أن ينتظر، أما اشاعة الديموقراطية ونشرها في دول المنطقة فمهمة مستعجلة لارتباطها بتجفيف منابع ما تسميه الإدارة الأميركية بالإرهاب في العالمين العربي والإسلامي. ومن أجل فرض مشروعها لبناء الشرق الأوسط الكبير ولاحقاً الجديد، جندت الإدارة الأميركية كل طاقاتها وحملت المشروع الى قمم دولية ثلاث انعقت في غير مكان في تموز 2004، فقد حملته تحاول تسويقه الى قمة الثمانية الكبار التي انعقدت في ولاية جورجيا في الولاياتالمتحدة، والى قمة حلف شمال الأطلسي التي انعقدت في اسطنبول في تركيا، والى قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت في بروكسيل. وأثار هذا الموقف، الذي يدعو الى فرض المشروع على دول المنطقة، ردود فعل متباينة وواسعة على أكثر من صعيد. ردود الفعل الأولى جاءت من مجموعة المثقفين والخبراء العرب، الذين وضعوا تقرير التنمية العربية. فالسطو الأميركي على تقرير المجموعة والاستنجاد به من أجل فرض مشروع للهيمنة الأميركية على المنطقة دفعاهم الى اتهام الإدارة الأميركية"بالسير على طريق العقلية المتعجرفة تجاه العالم بأسره وكأنها تتحكم بمصائر الدول والشعوب". دول الاتحاد الأوروبي شككت بدورها بأهداف هذا المشروع، فبناء شرق أوسط كبير أو جديد من دون حل النزاعات في المنطقة، أمر غير قابل للبحث فضلاً عن التحقيق، علاوة على ادراكها أن الولاياتالمتحدة غير مؤهلة لاقناع شعوب المنطقة ودولها، باستثناء إسرائيل، بجدوى مشروع كهذا، خصوصاً في ضوء تجربتها مع العدوان الأميركي على العراق وفي ضوء تجربتها مع الإدارة الأميركية وسلوكها في التعامل مع خطة"خريطة الطريق"لدفع جهود التسوية على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي نحو هدفها بإقامة دولتين تعيشان جنباً الى جنب هما دولة فلسطين ودولة إسرائيل. وفي هذا الإطار كذلك لم تبد دول الاتحاد الأوروبي حماساً لمشروع تدرك أن هدف الإدارة الأميركية الحقيقي من ورائه هو فرض هيمنتها على الشرق الأوسط وبناء موقع أمني استراتيجي متقدم للولايات المتحدة. وهكذا تكرر المشهد السياسي من جديد، فالإدارة الأميركية أخفقت في جر الاتحاد الأوروبي الى مغامرتها العسكرية في العراق ووجدت نفسها في وضع يصعب عليها فيه جر الاتحاد في مغامرة جديدة لبناء شرق أوسط كبير أو جديد لا يخدم في الأساس غير مصالحها ومصالح دولة إسرائيل. ردود فعل واسعة سادت الدول العربية كذلك، فعدد من هذه الدول، وجد في المشروع الأميركي ما يهدد استقرار أنظمة الحكم فيها، لأن من شأنه أن يربك أوضاعها وأن يشيع الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. في هذا السياق بالضبط، وتحديداً، جاءت دعوة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، لإطلاق العنان للفوضى البناءة أو الخلاقة في المنطقة، لأن تداعيات هذه الفوضى عنصر جوهري من عناصر التدخل والتحكم لفرض المشروع. الآن، وبعد هذا كله، ما هو دور إسرائيل وأين موقعها في هذا المشروع؟ هذا سؤال مشروع، خصوصاً بعد أن راجت الاطروحات حول دور إسرائيل في المنطقة وتراجع هذا الدور بعد اتفاقات أوسلو وبعد العدوان الأميركي على العراق. دور إسرائيل احتفظت به الولاياتالمتحدة في طور الكمون، وكان يمكن لدور إسرائيل أن يبقى كامناً لو لم يصطدم المشروع الأميركي بالاستعصاء العراقي والمقاومة العراقية والفوضى غير البناءة وغير الخلاقة في العراق. فالعراق لم يتحول الى نموذج ديموقراطي يحتذى به لمواصلة مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وسياسة الإدارة الأميركية غرقت في مستنقع بلاد الرافدين ورمالها المتحركة، ونشر الديموقراطية لم يسعف سياسة المحافظين الجدد في المنطقة، ولم يساهم في خدمة مشروعهم بقدر ما أسهم في دعم مواقف قوى ودول الممانعة، بما في ذلك إيران، التي تسعى جاهدة لامتلاك التكنولوجيا النووية. وهكذا دخلت السياسة الأميركية التي يقودها المحافظون الجدد في المأزق، فجاء التفكير بمغامرة جديدة للخروج من الطريق المسدود، وكانت إسرائيل هي الأداة مثلما كان أسر الجندي في قطاع غزة والجنديين في جنوبلبنان هو الذريعة لهذه المغامرة الجديدة. هل تفتح المغامرة الجديدة الطريق أمام مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ كوندوليزا رايس، التي دعت الى اشاعة"الفوضى الخلاقة"باعتبارها رافعة من روافع المشروع، ترى في عمليات التدمير التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة وفي لبنان علامة فارقة على آلام مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد. غير أن الصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كما في الضفة الغربية، وما يجري على الأرض في لبنان، خصوصاً في جبل عامل والجنوب، بكل عام يؤكد اننا أمام حمل كاذب وفوضى عبثية لن تسلم منها ومن تداعياتها مصالح كل من الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل. * عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية