من أهم النتائج التي أسفر عنها نجاح الفلسطينيين في إجراء انتخابات ديموقراطية نزيهة هو أن هذا النجاح يتيح"فرصة خلاقة"قد تقود إلى تحول نوعي عملاق في مسار القضية الفلسطينية إذا ما أحسنت"حماس"، وبقية الأطراف المعنية، التعامل معها. وجوهر هذه الفرصة يتمثل في القدرة على الجمع بين التعهدات الدولية للسلطة الفلسطينية والمقاومة المسلحة بثوابتها الوطنية، إذ أثبتت خبرة أكثر من عشر سنوات أن السلطة وحدها لم تحقق شيئاً للفلسطينيين، وأن المقاومة المسلحة وحدها لم تحقق الهدف النهائي بتحرير الأرض وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وإن كانت أنجزت خطوات على هذا الطريق بإجبار الاحتلال على الانسحاب من قطاع غزة. نجاح الديموقراطية الفلسطينية وفوز"حماس"بصفة خاصة هو أبلغ رد عربي حتى الآن على مفهوم"الفوضى الخلاقة"الذي ابتدعته السياسة الأميركية قبل أكثر من عام وقصدت به خلخلة الأوضاع القائمة في منطقة الشرق الأوسط، من أجل إتاحة الفرصة أمام عملية الإصلاح والتغيير على نحو يحقق الأهداف الأميركية في المنطقة. وتتجلى بلاغة الرد الديموقراطي الفلسطيني في أنه يثبت فشل السياسة الأميركية التي وعدت العالم ببزوغ نموذج ديموقراطي من العراق، لم يدخر الأميركيون وسعاً في صوغه ودعمه بكل قوة، فإذا بالنموذج يبزغ من فلسطين التي تتحيز السياسة الأميركية ضدها بكل قوة لمصلحة الجانب الإسرائيلي. الفرصة الخلاقة التي أتاحتها الانتخابات الفلسطينية قوبلت ب"حملة ترويع"تشنها أطراف متعددة، وتتزعم إسرائيل والولاياتالمتحدة ودول أوروبية هذه الحملة، وتهدد بقطع المساعدات التي تشكل أكثر من 65 في المئة من موازنة السلطة لحشر"حماس"في زاوية التنازلات حتى قبل أن تشكل الحكومة الجديدة. ويحاول المشاركون في حملة الترويع تهيئة الأجواء لنوع من الفوضى الداخلية على الساحة الفلسطينية، وتصوير فوز"حماس"على أنه بداية فصل جديد من المآسي للفلسطينيين. الا ان هذه الحملة، في اعتقادنا، لن تنجح في إخفاء ملامح الواقع الجديد الذي بدأ يتشكل على الساحة الفلسطينية، كما لن تنجح في وقف تأثيرات هذا الفوز على مجمل الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط. أول ملامح كافة للمرة الاولى في تاريخ القضية الفلسطينية. صحيح أن منظمة التحرير اكتسبت صفة الممثل الشرعي والوحيد، لكن ذلك كان بناء على قرار من النظام الرسمي العربي في قمة الدار البيضاء عام 1974، وأدى هذا القرار مهمته واستنفد أغراضه، بكل ما له وما عليه. وجاءت الانتخابات الأخيرة لتفتتح مرحلة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية، يقودها ممثل شرعي، ليس وحيداً، لكنه يستمد شرعيته من الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني: مصدر السلطات بحسب النظرية الديموقراطية التي تنادي بها السياسة الأميركية المعلنة على الأقل. الملمح الثاني في الواقع الفلسطيني الجديد هو اتجاه"حماس"الى الجمع الخلاق بين اعتبارات الواقعية السياسية والتمسك بنهج المقاومة والثوابت الوطنية. ويظن كثيرون أن هذا التوجه فرضه وصول الحركة إلى موقع السلطة عبر الانتخابات الحرة، لكن الحقيقة أن هذا التوجه بدأته"حماس"قبل نحو عام تقريباً عندما قبلت الدخول في هدنة وتمسكت بها على رغم الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، وعبرت عنه بقبولها اقامة الدولة على أساس قرارات الشرعية الدولية، والقبول بهدنة طويلة الأمد كحل مرحلي. ومن المؤكد أن فوز الحركة في الانتخابات ودخولها في صلب النظام السياسي الفلسطيني عبر صناديق الاقتراع سيجعلها أكثر قدرة على الجمع الخلاق بين نهج المقاومة والعمل السياسي المسؤول انطلاقاً من التفويض الشعبي. الملمح الثالث هو انتقال"الارتباك والتأزم"كصفة ملازمة للساحة الفلسطينية طوال المراحل السابقة، إلى الأطراف الأخرى وفي مقدمها إسرائيل والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي- ففي حين اتسمت ردود فعل هذه الأطراف بالتشنج وفقدان التوازن، سادت الساحة الفلسطينية حال نادرة من الاتزان والانسجام بين القوى والتيارات السياسية المختلفة، ولم تكن ساحة التفاعلات الفلسطينية الداخلية بمثل هذا الانسجام والتوازن في أي وقت مضى، ولا بد من الاشارة الى ان الداعم الأكبر لهذه الحال هو الموقف المسؤول الذي عبرت عنه السلطة ممثلة بالرئيس محمود عباس وحركة"فتح"، إلى جانب بقية الفصائل والقوى. ومن شأن حال الاتزان والانسجام التي تتسم بها التفاعلات السياسية الفلسطينية الداخلية أن تفسح المجال واسعاً لتعظيم المكاسب التي يمكن تحقيقها من طريق استثمار هذا النصر السياسي الذي أنهى الأسطورة القائلة إن إسرائيل هي واحة الديموقراطية الوحيدة وسط صحراء الديكتاتوريات العربية. صحيح أن"حماس"والسلطة، ومعهما الشعب الفلسطيني، أمام تحديات كبيرة، لكنهم ليسوا في مأزق كما يحاول بعضهم تصوير الموقف الراهن. والفرق بين المأزق والتحدي أن الأول يدفع بالسلوك السياسي إلى مواقع ردود الفعل على مبادرات الأطراف الأخرى، ويجعل هذا السلوك أسيراً لضغط ضيق الوقت المتاح وسرعة الإنجاز المطلوب، أما التحدي فهو حال تدفع بالسلوك السياسي إلى مواقع المبادرة، وتجعله أكثر قدرة على استنهاض القوى داخلياً وخارجياً، وتحقيق درجة أعلى من التماسك الوطني من دون الشعور بضغوط ضيق الوقت وإملاءات الأطراف الأخرى المنخرطة في الشأن الفلسطيني. وتدرك"حماس"هذه الحال الجديدة إدراكاً تاماً، وتتصرف من منطلق الشعور بأنها أمام تحديات كبيرة. اذ ان سلوكها السياسي، منذ اللحظة الأولى لإعلان فوزها في الانتخابات، يؤكد أنها تسعى الى استغلال قوة الدفع التي ولدها الحراك الديموقراطي الفلسطيني من أجل تشكيل رؤية سياسية جديدة تقوم على ثلاثة أسس، هي: 1- إصلاح الواقع الفلسطيني وتغييره الى الأفضل التزاماً ببرنامجها الانتخابي أمام شعبها. والتحدي الأكبر الذي تواجهه"حماس"هو إصلاح الوضع الاقتصادي والتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب ابتكار أدوات جديدة للتغلب على نقص الموارد المالية في حال نفذت الجهات المانحة تهديداتها بقطع المساعدات. 2- حماية المقاومة التي التف حولها الشعب الفلسطيني وأثبتت فاعليتها في انتزاع حقوقه. والتحدي الأكبر هو ضبط الأمن الداخلي والسعي إلى جمع فصائل المقاومة المسلحة في جيش موحد للتحرير الوطني. ولا شك في أن النجاح في بناء جيش كهذا سينهي حال الانفلات الأمني ويضع لبنة قوية في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة. 3- ترتيب البيت الفلسطيني ومؤسساته على أساس مبدأ الشراكة، ونبذ تقاليد الإقصاء، وفتح المؤسسات الفلسطينية كافة أمام القوى والتيارات السياسية من دون استثناء، وتفادي تكرار أخطاء الماضي. والتحديات على هذا المستوى كثيرة جداً وتتطلب من"حماس"خفض تناقضاتها مع بقية الفصائل إلى الحد الأدنى، وتقسيم الأدوار معها، خصوصاً مع"فتح"التي تأتي في المرتبة الثانية بعد"حماس"بين القوى الفلسطينية. والسؤال المهم لا يتعلق برغبة"حماس"في التعامل الإيجابي مع"الفرصة الخلاقة"التي صنعتها إرادة الشعب الفلسطيني، فكل المؤشرات تؤكد على حرص حماس على تنمية هذه الفرصة وتفعيلها، ولكنه يتعلق بمجمل الظروف الدولية والمعطيات الإقليمية، وهل هي ملائمة للسير في طريق الفرصة الخلاقة؟ دولياً، جاء صعود"حماس"إلى السلطة في لحظة أضحت فيها القوى الدولية أكثر استعداداً لتفهم حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الولاياتالمتحدة وهي الفاعل الرئيس في القضية. ومع"اختفاء"ارييل شارون عن الساحة، ستقل فاعلية التأثير السلبي الذي كانت تمارسه إسرائيل على صانع القرار الأميركي، وسيكون في استطاعة السياسة الأميركية أن تمارس تأثيراً أقوى على إسرائيل. وتدعم هذا التوجه الدولي المبادرة الروسية بدعوة"حماس"الى موسكو، والتأييد الفرنسي لها. أما إقليمياً، فإن من مصلحة غالبية الدول العربية التعامل مع"حماس"لأن التخلي عنها في هذه الظروف سينعكس سلباً ليس على شرعيتها فقط، وإنما على الاستقرار الداخلي لهذه الدول، خصوصاً مع صعود المد الإسلامي في معظمها. أضف إلى ذلك أن اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي أضحت تميل إلى مزيد من الاعتدال، بعكس ما كانت الحال في السابق، وأضحى انهيار السلطة الفلسطينية إذا ما حدث نتيجة مقاطعة حكومة تشكلها"حماس"أكثر ما يخافه ساسة إسرائيل لأن معناه الرجوع إلى ما قبل أوسلو والقضاء نهائياً على الخيار السياسي، ومواجهة بديل واحد هو المقاومة المسلحة الذي ستشارك فيه الفصائل كافة. كاتب مصري