ألا يمكن للنظام الرسمي العربي أن"يخرج من جلده"مرة فيكون أقل تثاقلا حين تكون المحنة شديدة تقتضي إنقاذا عاجلا ولا تتحمل جلسات"كونسلتو"مسترخية؟ كان هذا السؤال واحدا من أسئلة ملحة فرضت نفسها فور وقف العدوان الإسرائيلي وبدء حصر وإحصاء الخسائر الهائلة التي تقتضي الشروع بشكل فوري في إعادة بناء كبيرة ومكلفة. وازداد إلحاح السؤال عندما أعلن حزب الله مبادرة لتعويض من هُدمت منازلهم ليتمكنوا من استئجار منازل موقتة خلال إعادة البناء. فقد أثار هذا خوفا من تفتيت عملية إعادة البناء، خصوصا عندما بدا أن قوى وشخصيات لبنانية أخرى تميل إلى التصرف بالمثل بشكل أو بآخر. فمن شأن بناء اقتصادي هذا طابعه أن يؤدي إلى هدم ما كان تحقق على صعيد البناء السياسي الوطني عبر إضعاف دور الدولة الضعيفة أصلا. وليس في إمكان هذه الدولة، ممثلة في حكومة فؤاد السنيورة، أن"توحد"عملية إعادة البناء الاقتصادي، أو تنظمها في إطار وطني متماسك، إلا إذا توفرت لها موارد كبيرة تتيح لها انتزاع زمام المبادرة. والشرط الأول سرعة التحرك لتوفير الموارد وضخها على نحو لا يستطيع تقدير قيمته السياسية والاستراتيجية إلا الدول العربية التي تدرك أن ما سيحدث في لبنان سيكون له أثر بالغ في تحديد صورة المنطقة لسنوات طويلة. ولكن بالرغم من وجود هذا الإدراك، حال بطء حركة النظام العربي دون تلبية شرط السرعة في إعادة بناء لبنان اقتصاديا. فقد انتهى اجتماع وزراء الخارجية العرب دون نتيجة حاسمة. فالبيان الصادر عن الاجتماع والذي أشار إلى"استعداد الدول الأعضاء للقيام بجهد عربي للمساهمة في إعادة اعمار لبنان ودعم وتطوير الاقتصاد اللبناني"جاء خاليا من أي خطط أو برامج. هذا التثاقل العربي الشديد قد يكون وراءه رغبة في تقديم أفضل ما يمكن تقديمه إلى لبنان، على الأقل من زاوية بعض الدول العربية الأكثر حرصا على هذا البلد. ولكن ما يحتاجه لبنان، والمنطقة التي يؤثر فيها ما يحدث فيه، هو رؤية استراتيجية تربط بين دعم إعادة البناء الاقتصادي ومساندة البناء السياسي أو بناء الدولة الوطنية. ومن أهم دعائم هذه الرؤية التحرك السريع لتقديم مساعدات عاجلة تتيح للحكومة اللبنانية تذكير مواطنيها، وخصوصا المتضررين من الحرب، بأن ثمة دولة يمكنهم الاعتماد عليها. وقد لا يكون هناك سبيل آخر إلى ذلك في اللحظة الراهنة. فالوظيفة الأخرى للدولة، وهي الدفاع عن الوطن وحماية حدوده، مازالت غائبة بالرغم من بدء نشر الجيش الوطني في جنوبلبنان. فما كان لهذا الجيش أن يُنشر إلا بالتفاهم مع حزب الله، حتى لا نقول بموافقته. والدولة التي تنتظر تفاهما مع أي مكون من مكونات مجتمعها لكي تقوم بوظيفة سيادية لا يمكن إلا أن تكون دولة في طور البناء في أفضل تقدير. ويعرف الجميع أنه سيمضي ردح من الزمن قبل أن يصبح الجيش الوطني، وهو أحد أبرز علامات سيادة الدولة، حامي البلاد الوحيد. ولكن ربما تستطيع الحكومة اللبنانية، في المقابل، أن تؤدي وظيفتها في تنظيم المجتمع، وبمستوى لم تقدر عليه منذ الشروع في إعادة بناء الدولة عقب الحرب الأهلية، إذا نهضت بمسؤوليتها تجاه مواطنيها الذين خسروا منازلهم أو محلاتهم التجارية أو زراعاتهم وغيرها مما كانوا يمتلكون، وشرعت في إصلاح وترميم البنية التحتية التي دكها القصف المجنون دكا. غير أن هذا مشروط بتحرك سريع، بل فوري، من النظام العربي الرسمي وأعضائه أصحاب المصلحة الأكيدة في استعادة الدولة اللبنانية سيادتها وبسط سيطرتها على أنحاء البلاد. فالعمل العربي لإعادة بناء لبنان اليوم، إذا، ليس محض اقتصادي، بل سياسي في المقام الأول لأن الاضطلاع به من عدمه يمكن أن يكون فارقا من زاوية مستقبل هذا البلد، وانعكاساته على مصير المنطقة. فإعادة البناء الاقتصادي هي المدخل الوحيد المتاح الآن لإعادة بناء الدولة واستعادة سيادتها التي تبارى في إهدارها أطراف داخلية وإقليمية ودولية سواء بقصد أو من دون قصد. غير أن هذه مهمة لا يمكن إنجازها إلا عبر عمل عربي سريع بل فوري، وليس من خلال بيانات التأييد والنوايا الحسنة انتظارا لاجتماعات مقبلة وجلسات ممتدة. فقد تحركت أجهزة حزب الله بسرعة فائقة لتجهيز مئات المتطوعين عبر البلاد للمساعدة في تنفيذ مبادرته - الأولى حتى الآن - لتوزيع 12 ألف دولار نقدا على كل من فقد منزلا فور تقديم ما يثبت ملكية المنزل المهدم. وفي هذا التحرك السريع رسالة واضحة لكل من يعنيه الأمر. ولكن وزراء الخارجية العرب الذين أخذوا علما بالرسالة، لم يقدروا خطورتها. وربما لم يحسنوا أيضا تقدير دلالة القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة اللبنانية، بصفته رئيس الهيئة العليا للإغاثة، في اليوم السابق مباشرة على اجتماع وزراء الخارجية، أي في 19 آب أغسطس الجاري، بدفع مساعدات مالية لعائلات الشهداء والجرحى والمعوقين نتيجة العدوان الإسرائيلي، على أن يكلف مجلس الجنوب بتسليم الشيكات إلى مستحقيها في كل من محافظتي الجنوب والنبطية. فعندما يصدر هذا القرار، في اليوم التالي مباشرة لبدء حزب الله في توزيع المساعدات التي وعد بها، فهو يوحي بأن الحكومة تدخل في منافسة معه، بدلا من أن تضع هي الإطار العام الذي يعمل الجميع من خلاله. وحكومة هذه حالتها لا تمثل دولة حقا، إنما مشروع دولة على أكثر تقدير. وحتى أعمال إعادة البناء الكبرى التي يفترض أن تكون بيد"الدولة"حصريا، وخصوصا تلك التي تتعلق بالبنية التحتية، يشاركها فيها آخرون بسبب ضيق ذات هذه اليد. وعندما تكون هذه المشاركة من جانب بعض مكونات المجتمع السياسي - الطائفي، تكتسب دلالة سلبية بخصوص مستقبل لبنان، حتى إذا كانت لهذا المكون المشارك مصلحة في بناء الدولة، بخلاف الحال عندما تأتي المساهمة من جانب القطاع الخاص. فالمشكلة لا تقتصر على تحرك حزب الله بمعزل عن الحكومة، لأن مبادرته المنفردة لابد أن تستفز مبادرات مماثلة بصورة أو بأخرى حتى إذا كان بعضها بالتنسيق مع الحكومة، مثل مبادرة بهاء الدين الحريري نجل رئيس الوزراء اللبناني الراحل لإعادة بناء أربعة جسور على نفقته الخاصة. فقد أُبلغت هذه المبادرة إلى رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، بخلاف مبادرة حزب الله التي انطوت على تجاهل تام للحكومة. وربما يتسع نطاق التحركات الانفرادية، التي لا تفيد في إعادة بناء دور الدولة، كلما تأخر الدعم العربي للحكومة اللبنانية. وقد يأخذ هذا الدعم طابعا انفراديا بدوره. فقد لوحظ في حديث الأمين العام للجامعة السيد عمرو موسى، في المؤتمر الصحافي الذي أعقب اجتماع وزراء الخارجية العرب، إشارته إلى أن دولا عربية أبدى كل منها رغبته في القيام بأعمال معينة في إطار عملية إعادة البناء في لبنان. وهذه طريقة تفيد في حالات إعادة البناء الاقتصادي التي لا تنطوي على أبعاد سياسية بالغة الأهمية، بخلاف هذه الحالة اللبنانية. فأي مساهمة عربية مباشرة، أي بمعزل عن الحكومة اللبنانية، في إعادة البناء تفيد اقتصاديا وتضر سياسيا. ولذلك تجدر مراجعة ما أقدمت عليه دول عربية في هذا الاتجاه، مثل قطر التي تعهدت بإعادة بناء بلدة بنت جبيل وبلدة أخرى بالكامل على نفقتها، وتلقت شكرا على ذلك من رئيس المجلس النيابي ولكن"باسم الجنوب وكتلة التحرير والتنمية النيابية". فلا جدوى من بناء اقتصادي لا يقترن بإعادة بناء الدولة، بل قد يحدث بطريقة تهدم ما أمكن ترميمه في مشروع هذه الدولة خلال السنوات الماضية. فمن دون إعادة بناء سياسي، أيضا، سيظل لبنان ساحة لصراعات وتحالفات متنوعة أكثر منه دولة. وفي مثل هذه الساحة، يبقى الاعمار الاقتصادي مهددا مهما بدا أنه صار آمنا.