بعيداً من الخطابة التي تصبّ في خانات سياسية ضيقة، يبدو ما حدث في لبنان، كارثة استثنائية، ليس لها مثيل في العصر الحديث. وإذا كانت الفضائيات العربية عرضت الكثير من التفاصيل، للمجازر الصغيرة والكبيرة، والحرائق ومشاهد التدمير المروعة، فهذا ليس كافياً، إذ لا بد من إعادة قراءة ما حدث من زوايا أخرى، ومشاهدته لاكتشاف ما لم يكتشف، من تفاصيل الكارثة وتوثيقها سينمائياً وتلفزيونياً وفوتوغرافياً، بالصورة والكلمة واللوحة والجدارية والفيلم والمنحوتة الطبيعية، كما هي، بكل ما فيها من عنف وحشي ودموي، يتجاوز الصور السابقة للكوارث الحربية والطبيعية المألوفة. في كل مدينة أو بلدة أو قرية لبنانية، باستثناءات قليلة، ثمة آثار وشواهد حية من تفاصيل الكارثة، على مستويات بشرية وعمرانية في مجالات الطاقة والمياه والمواصلات والشرايين الأخرى للحياة. وإذا كان التوثيق يشمل كل خريطة لبنان، كمتحف كبير في الهواء الطلق، فإنه يحتاج إلى برمجة دقيقة ومدروسة، كي يكون مشروع ذاكرة للأجيال التي ولدت تحت القصف أو بعده، ولم تفهم ما حدث أو لا تستطيع أن تتخيل حجم الكارثة، وتتذكر مجزرة قانا الثانية وقانا الأولى. أرسلت المخرجة السينمائية اللبنانية اليان الراهب، بالبريد الالكتروني، عدداً من الصور المخيفة، إلى أصدقائها، وهي تمثل مجموعة من الأطفال الإسرائيليين، في أحد المعسكرات، يكتبون رسائل على حزمة كبيرة من الصواريخ، قبل تحميلها على الطائرات الحربية المتجهة إلى السماء التي غنى عنها وديع الصافي وفيروز، وطلبت اليان الراهب من أصدقائها إعادة إرسال هذه الصور إلى أصدقائهم. وهذه وثيقة إضافية ملونة عن جذور الكراهية التي يرضعها الأطفال على أيدي آبائهم - صانعي الكارثة المبرمجة. صور صامتة وأفلام قصيرة وطويلة وبرامج فضائية ولوحات جدارية ومقابر جماعية وأشلاء وجسور ومسلات من بقايا أبنية عالية ومقابر سيارات مركبّة .. تظل كما هي شواهد موثقة بالتواريخ عن تفاصيل الكارثة. وستظل شواهد"خاماً"حتى تبدأ الأيدي الفنية بالاشتغال عليها، في شكل جدي خارج الراهن السريع. ربما عندها يقول الفن الحقيقة في ما حدث.