بأنف المهرّج الأحمر، يطلّ مسؤول جهاز الأمن السابق في «القوات اللبنانية» أسعد الشفتري في الفيلم الوثائقي «ليالٍ بلا نوم». بنظرات تنضح بتيه، يُحيّر المتفرج الباحث عن خفايا من زمن الحرب. لا يراوغ ولا ينطق بالكثير. لا يمرر إلا ما يريد. ولا يقدم جديداً خارج ما بات يُعرف عنه منذ أعلن «توبته» بعد انقلابه على رفاق الدرب. فالرجل الثاني في مخابرات «القوات اللبنانية» سابقاً، لا تعوزه الحنكة، ولا تخيفه لعبة الكاميرا. لا زلة لسان من هنا ولا انتزاع اعتراف من هناك. كلمات مدروسة بعناية، صادمة حيناً، مكررة أحياناً... لكنها كلها تصيب الهدف، بما لا يترك مجالاً لمحاوِرته (مخرجة الفيلم إليان الراهب) للتلذذ بنشوة الانتصار... حتى نتف الكلام التي يبدو أنها خرجت من لسانه على عجل، تُشعر المشاهد العارف بخبايا الحرب انها موظفة لهدف ما في نفس صاحبها... الى درجة يمكن القول إن أسعد الشفتري استدعى الكاميرا بدل أن تستدعيه، لتصفية حسابٍ مع الماضي. أو هذا على الأقل ما يبدو عليه الأمر حين ارتضى المشاركة في فيلم يستفيض برسم صورة «الجلاد والضحية» بأحادية مخيفة، لا يمكن معها الوصول الى مقاربة موضوعية للحرب اللبنانية. ف «الجلاد» في هذا الشريط الذي يتجاوز الساعتين من الوقت هو الحزب اليميني المسيحي (القوات اللبنانية) حصراً، و «الضحية» هي الحزب اليساري الشيوعي حصراً. لا «جلاد» في طرف «الضحية» ولا «ضحية» في طرف «الجلاد»(!). وبالتالي يبدو المنطلق الذي بُني عليه الفيلم - وهذا عيبه الكبير - مترهلاً، بحيث لا يمكن عملاً يُحاكي مرحلة مهمة من تاريخ لبنان، أن يغوص في وحول حرب بانتقائية لا يمكن تبريرها في فيلم ينتمي الى السينما الوثائقية لا السينما الروائية... والأهم بتعميم يُخاصم منذ الدقائق الأولى شريحة واسعة من اللبنانيين (اليمين المسيحي)، بتصويرهم على هيئة «الجلاد»... وكأنهم وحدهم من تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء. بين جلاد وضحية معادلة غير متكافئة رسمتها إليان الراهب في «ليال بلا نوم» حين وضعت أسعد الشفتري مقابل مريم السعيدي: أسعد الذي يقول لنا الفيلم إنه «يبحث عن خلاصه بإيجاد سبيل التطهر ونيل الغفران على الماضي الدموي الذي انخرط فيه». ومريم التي لا تعرف طعم النوم منذ فقدت أثر ابن ال15 ربيعاً خلال مشاركته في صفوف الحزب الشيوعي في معركة «كلية العلوم» عام 1982 ضد حزب «القوات». اجتزاء نافر للتاريخ بالنظر الى الماضي بعين واحدة عن قصد أو غير قصد. وفي الحالتين لا تعود هناك فائدة من قول المخرجة إنها سلطت الضوء على زاوية من الحرب تاركة لسينمائيين آخرين مهمة النبش في زوايا اخرى... قد يكون مثل هذا الكلام منطقياً لو أن الفيلم لم يتحوّل الى طرف، واكتفى بالنظر الى الأحداث من خارج الكادر. ولكن بمجرد ان اعتمد أسلوب «الضحية والجلاد»، بدا وكأنه أصدر حكماً مبرماً ضد شريحة من نسيج المجتمع اللبناني لمصلحة شريحة أخرى. وبالتالي غرق من حيث لا يدري في وحول الحرب بتوجيهه أصابع الاتهام الى هذه الفئة التي تؤمن بأنها هبّت للدفاع عن وطنها بعدما شعرت بأنّ هناك من يحاول سرقته منها... صحيح أنها قد تكون ارتكبت في طريقها أخطاء كثيرة وخطايا «مميتة»، ولكن، هل كانت وحدها في الجبهة؟ وهل يمكن الجزم اليوم أيهما الجلاد وأيهما الضحية بين أطراف الصراع في لبنان؟ أوليس في كل فريق جلاده وضحيته؟ وهل يمكن اختصار قضية مخطوفي الحرب بقضية مريم السعيدي؟ أسئلة لم يبد أنها شغلت إليان الراهب بمقدار ما شغلها تحقيق «سكوب» ما - وهو ما يتهمها به الشفتري نفسه ذات لقطة في الفيلم على أية حال -، من هنا أتى تركيزها على معركة كلية العلوم طالما ستوصلها لاكتشاف مكان «المقبرة الجماعية» التي قد يكون ماهر قصير - إبن مريم - ورفاقه دُفنوا فيها في ظل غياب الدولة اللبنانية عن هذا الدور. معركة شخصية أما الشفتري، فبدا ان معركته شخصية أكثر منها محاولة ل «التطهر» أو «العلاج» من آثار الماضي على رغم مرافقة الفيلم له الى جلسات العلاج بالضحك (Clown therapy) أو مشاركته في ندوات تنبذ الحرب. ولعل المشهد الأكثر تعبيراً في الفيلم حين يقول الشفتري ما معناه إنه كان يمكن أن يصبح وزيراً أو نائباً في لبنان ما بعد الحرب، لكنه اختار الطريق الآخر (!). وربما تكون هنا كل الحكاية. لكن للأسف لم تلتقط كاميرا إليان الراهب هذا الكلام، ولم تستفض في السؤال إن كان «اعترافه» أتى نتيجة استبعاده من لعب دور سياسي ما، كان يطمح إليه أسوة بكثيرين من أمراء الحرب واللاعبين فيها... بل بدت متواطئة في شكل غير مباشر مع «الجلاد»، حتى وهي تلعب لعبة المحقق... وربما يعود السبب الى انشغالها بفتح أكثر من جبهة، بدل التركيز على رسم بورتريه نفسي ل «مقاتل» التحق في صغره بمدرسة للفتيات وكان يحب الرقص (كما يقول الفيلم)! لقطات كثيرة في فيلم إليان الراهب، تستحق الوقوف عندها. ففي احد المشاهد يُسأل ابن الشفتري إيلي عما يزعجه اليوم في والده، فيقول ما معناه أن مشكلة أسعد أنه لم يعد يفعل شيئاً سوى الاعتذار. وفي مشهد آخر، يُقاطع أسعد والده العجوز حين يتكلم عن العلاقات الأخوية بينه وبين جيرانه من المسلمين قبل الحرب، فيُكذّبه في وجهه قبل ان يسود صمت محرج. مشهد آخر يُظهر غضب مسؤول الأرشيف في جريدة «النداء» الشيوعية وهو يطرد فريق العمل ما ان تتفوه مريم بالحديث عن متاجرة الحزب بشهدائه و «قبض ثمنهم من دول عربية»... وحجتها وثيقتان مختلفتان لابنها، واحدة كتب عليها مفقود والثانية مقتول... مشاهد كثيرة، كان يمكن أن تؤسس عليها إليان الراهب في فيلمها، لو أنها لم تختر الوقوف طرفاً منذ البداية، ومع هذا لا يمكن التغاضي عن الجهد الكبير المبذول في هذا الشريط الذي استغرق إنجازه ثلاث سنوات، ولا عن الأسلوب السينمائي المتين ببساطته. والأكيد أن الفيلم الذي استطاع أن يحرك دعاوى قضائية لكشف مقابر جماعية جديدة لن يمر بهدوء خلال عروضه التي انطلقت أمس في بيروت. ولا شك في ان هذه الخطوة انتصار جديد للسينما الوثائقية التي لا عهد لها مع الصالات التجارية. «نسيناهم» يجيب قائد العمليات العسكرية في الحزب الشيوعي (خلال الحرب) الياس عطالله، وهو يدخن سيجاره الكوبي ويبدي عدم اكتراثه بالماضي، في إشارة الى أعداء الأمس-حلفاء اليوم... لكنّ الفيلم يأتي ليقول لا لن ننسى... ويا حبذا لو لم تكن ذاكرته (الفيلم) انتقائية.