تمر اسواق المال العربية، والخليجية تحديداً، بمخاض عسير بعد الانهيارات المتوالية في اسعار الاسهم وتدني التعاملات الى حدها الادنى في معظم البورصات العربية. وانخفضت هذه الاسواق بنسبة تتراوح بين 40 و70 في المئة عن آخر نقطة بلغتها خلال اقل من عام، ساهم في ذلك الفوضى التي عمت الاكتتابات الأولية في بعض الأسواق في ظل عدم اكتمال الأنظمة وتشريعات كثيرة منظمة لعمل اسواق المال، بالإضافة الى دخول الملايين من المستثمرين للمرة الأولى ومن دون الإلمام بالحد الأدنى من المعرفة بكيفية التعامل، خصوصاً بالمضاربات اليومية. لكن على رغم انهيار الأسعار، برزت في الأشهر القليلة الماضية بعض الظواهر الإيجابية، وخصوصاً خروج أعداد كبيرة ممن نسميهم متعاملي العبور ترانزيت بعد ما تكبدت غالبيتهم خسائر كبيرة مقارنة بقدراتهم وإمكاناتهم المالية. وهنا بالذات تحضرني قصة الملياردير وسائقه وحديثهم عن البورصة واسعار الأسهم والتي قرر الملياردير على ضوئها الخروج من البورصة حتى إشعار آخر. عموماً، استطاعت معظم البورصات العربية تحرير نفسها جزئياً من متعاملي"الترانزيت"، وهذا بحد ذاته تطور إيجابي، فهؤلاء المتعاملون أول من يسير في ما يسمى ب"قافلة القطيع"التي تمر بها الأسواق بين فترة وأخرى، خصوصاً في فترات الأزمات والتوترات الطارئة. التطور الإيجابي الآخر، والمهم، يكمن في عملية الفرز التي تمخضت عن الإعلان عن نتائج النصف الأول من العام الجاري. اذ ان هناك عدم وضوح وضبابية في ما يتعلق بهذه النتائج. فمستثمرون كثر لم يتمكنوا في البداية من التمييز بين الشركات ذات الأداء الجيد والأرباح العالية، وبين تلك التي بنت مجدها على الاكتتابات الأولية والمضاربات، حيث أدى ذلك إلى انتشار الآراء والتصريحات القائلة بان الأرباح نصف السنوية، وحتى السنوية، للشركات في شكل عام سوف تتدنى كثيراً، وللأسف ساهم بعض المحللين بإعطاء هذا الانطباع عمداً أو عن غير قصد. الآن، وبعد ان أعلنت معظم الشركات الخليجية عن أدائها وأرباحها للنصف الأول من العام الحالي، تكون عملية الفرز اكتملت واتضحت الرؤية للمستثمرين. فالشركات والمصارف الجيدة والعريقة لم يتأثر أداؤها بانهيار اسواق المال وحققت أرباحاً تشغيلية كبيرة فاقت بنسب كبيرة تلك المحققة في العام الماضي. أما الشركات والمؤسسات التي استغلت فورة اسواق المال للمضاربة وتحقيق أرباح سريعة لا علاقة لها بالأداء التشغيلي للشركة نفسها، فانخفضت أرباحها بصورة كبيرة وستظل تعاني للسنوات القادمة، في الوقت الذي ستزدهر فيه أعمال وأرباح الشركات والمصارف التي تعتمد المعايير الصحيحة في العمل، بعيداً من المضاربات والتطورات الآنية. هذا الفرز المهم جداً والواضح وضوح الشمس للمستثمرين في البلدان العربية كافة، خصوصاً الخليجية منها، سينعكس إيجاباً على أداء البورصات العربية في الفترة القادمة. وهنا لا نستبعد عمليات المضاربة التي ستؤثر في اتجاهات الأسواق. فهذه المضاربات ستبقى ما دام هناك بورصات تعمل واسعار تتأرجح تحت وقع تطورات اقتصادية وسياسية متتالية. لا شك في ان العدوان الإسرائيلي على لبنان وضع حدوداً للانعكاسات الإيجابية لعملية الفرز هذه. الا ان هذا العامل الموقت سيتيح مجالاً أوسع للمستثمرين لإعادة ترتيب أوراقهم الاستثمارية بعد ان تدعم النتائج السنوية للشركات والمصارف المساهمة عملية الفرز مع بداية العام المقبل. من ثم، فعلى رغم الخسائر الكبيرة والتقلبات الحادة في اسواق المال العربية والخليجية خلال الأشهر الماضية، الا ان ما حدث له جوانب ايجابية أيضاً، إذا اعتبرنا ما حدث من فرز واعادة ترتيب وصدور أنظمة وتشريعات جديدة، بمثابة خطوة مهمة على طريق نضوج هذه الأسواق وتطورها الطبيعي في المستقبل. إن الأسواق الخليجية والعربية إجمالاً اسواق ناشئة، كما هي حال الاقتصادات العربية، وهي في حاجة للوقت ولكثير من العمل والتنظيم والتشريعات والوعي الاستثماري حتى تنضج وتمارس دورها التنموي، خصوصاً ان التحولات الاقتصادية الجارية في العالم تدفع باتجاه زيادة دور المؤسسات المالية ودور اسواق المال وعولمتها. * كاتب اقتصادي