الوقوف على الخصائص المميزة للخطاب السائد في أوساط المسلمين الأميركيين مهمة صعبة لأسباب مختلفة، على رأسها تنوع المسلمين الأميركيين وانتشارهم عبر الولاياتالمتحدة التي هي بلد أشبه بقارة منه بدولة، والندرة النسبية للدراسات الخاصة بمسلمي أميركا، وهي ندرة ترتبط بحداثة عهد المسلمين الأميركيين كجماعة متميزة وذات وجود واضح في الدوائر العامة الأميركية، وهو وجود بدأ في التبلور تدريجاً منذ ستينات القرن العشرين. هذا إضافة إلى صعوبة مهمة تحديد الخطاب السائد لدى جماعة ما لكونها مهمة نظرية تستدعي الإلمام العميق بثقافة تلك الجماعات وظروفها وبتنوعات فئات الخطاب السائد في أوساطها وفي أوساط الجماعات الفرعية المكونة لها. في المقابل هناك جسد متنامٍ من الدراسات التي تتناول المسلمين الأميركيين حالياً والذين بلغ عددهم قرابة سبعة ملايين نسمة وباتوا يمثلون محل اهتمام إعلامي وسياسي وشعبي أميركي متزايد على مدى العقدين الأخيرين عموماً ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 خصوصاً. تأتي هذه الدراسات من جانب مراكز الدراسات الإسلامية والعربية بالجامعات الأميركية، ومن جانب الأعداد المتزايدة من الأكاديميين والكتاب المسلمين المقيمين في الولاياتالمتحدة، ومن جانب مراكز الأبحاث الأميركية الخاصة والحكومية والتي باتت معنية في شكل متزايد بالوجود المسلم الأميركي منذ 11/9 انطلاقاً من أجندات فكرية وسياسية متنوعة ومتعارضة. وتستوقفنا هنا دراسة مختصرة وإن كانت متميزة صدرت أخيراً عن معهد الولاياتالمتحدة للسلام تحت عنوان"تنوع المسلمين في الولاياتالمتحدة"، وهي من إعداد قمر الهدى وهو جامعي مسلم عمل في السابق أستاذاً للدراسات الإسلامية بكلية بوسطن ويعمل حالياً باحثاً في برنامج الدين وصناعة السلام في معهد الولاياتالمتحدة للسلام. أهمية الدراسة - وهي محور هذا المقال - تنبع من ثلاثة أسباب أولها صدورها عن معهد الولاياتالمتحدة للسلام وهو مؤسسة حكومية مستقلة غير حزبية أنشأها ويمولها الكونغرس الأميركي بهدف العمل على نشر ثقافة حل الصراعات بالطرق السلمية. صدور الدراسة عن هذه الهيئة الرسمية يعطيها أهمية بحكم أنه يسمح لها بدرجة متميزة من الانتشار والصدقية وبحكم أنها تأتي ضمن جهود المعهد للبحث عن طرق إيجابية لدمج الإسلام والمسلمين في أميركا ضمن مساعيه لنشر ثقافة السلام واللاعنف في محيط العلاقات الإسلامية الأميركية، وقد تبلورت هذه الجهود في مبادرة خاصة يرعاها المعهد تحت عنوان"مبادرة العالم الإسلامي"تركز على البحث عن مثل تلك الطرق الإيجابية. السبب الثاني هو كون المؤلف أكاديمياً مسلماً مما يبشر بوجود جيل متنامٍ من الأكاديميين المسلمين المتواجدين في الجامعات ومراكز الأبحاث الأميركية والمعنيين بدراسة قضايا الإسلام والمسلمين في أميركا وتقديمها بالشكل والأسلوب المناسبين لصناع القرار والرأي العام في الولاياتالمتحدة. السبب الثالث وهو الذي دفعنا الى كتابة هذا المقال هو أن الدراسة كررت - عن قصد أو من دون قصد - ما يعد - من وجهة نظرنا - بمثابة عناصر متكررة أو خصائص مميزة للخطاب المسلم في أميركا أو للخطاب المسلم الأميركي. فالدراسة حاولت تغطية أكبر عدد من الأفكار والمعلومات عن مسلمي أميركا في مساحة صغيرة 19 صفحة من القطع الكبير، لذا بدأ المؤلف بملخص عام يتحدث عن تعداد مسلمي أميركا وتنامي رغبتهم في المشاركة في الحياة العامة الأميركية والاندماج الإيجابي بالمجتمع الأميركي، ثم تحدث عن تبعات أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 على مسلمي أميركا وعلى الجدل الدائر في أوساطهم حول هويتهم الأميركية، ثم خصص الجزء الأكبر من دراسته للتعريف بمؤسسات مسلمي أميركا الرئيسة ودور كل منها ومنهجها في تشجيع اندماج المسلمين الإيجابي بالمجتمع الأميركي. ويقسم قمر الهدى المنظمات المسلمة الأميركية الكبرى إلى فئات مختلفة وفقاً لطبيعة نشاطها، فهناك منظمات معنية في شكل أساس بالحفاظ على الهوية الدينية والثقافية لمسلمي أميركا، وفئة ثانية تضم المنظمات المعنية بالحياة العامة والسياسية، وفئات أخرى تضم منظمات نسوية ومهنية أو غيرها من الفئات التي تعبر عن اهتمامات سبعة ملايين مسلم أميركي. وفي خاتمة الدراسة يؤكد المؤلف حقيقتين أساسيتين أولهما إجماع المنظمات المسلمة الأميركية الكبرى على إدانة الإرهاب والتطرف وضرورة السعي لمكافحتهما، وثانيهما سعي تلك المنظمات لتشجيع مشاركة المسلمين الأميركيين في الحياة العامة الأميركية على مختلف المستويات - سواء كانت دينية أو ثقافية أو مهنية أو سياسية - كخير ضمانة لبناء قنوات إيجابية يعبر من خلالها مسلمو أميركا عن احتياجاتهم ومخاوفهم ومطالبهم ويحققون الاندماج الإيجابي - الذي ينشدونه - في المجتمع الأميركي. ومن دون الإسهاب في تفاصيل الدراسة، رأينا أن نقدم - في بقية هذا المقال - قراءة في أسلوب الدراسة في التعامل مع المسلمين الأميركيين والذي نعتقد - كما ذكرنا من قبل - بأنه يلخص عدداً من أهم خصائص الخطاب المسلم الأميركي والتي نلخصها هنا في ثلاث خصائص أساسية. الخاصية الأولى: هي أن الخطاب المسلم الأميركي هو خطاب مؤسسات بالأساس، وهذا لا يهمل دور عدد متنام من الأكاديميين والمفكرين والنشطاء المسلمين، ولكنه يبرز الدور المحوري للمنظمات المسلمة الأميركية الكبرى، وهي محورية تعود لأسباب عدة مميزة للخبرة المسلمة الأميركية. على رأس هذه الأسباب طبيعة المجتمع الأميركي ذاته كمجتمع عملاق يتمتع بحرية سياسية كبيرة وبقوانين تحد من تدخل الدولة في حياة المجتمع وخصوصاً في حياة الأقليات الدينية، وأدى الحد من دور الدولة إلى تقوية المجتمع بسبب الحرية وبسبب حرمان المجتمع النسبي - ضمن النظام الرأسمالي - وحرمان المنظمات الدينية شبة الكامل - ضمن النظام العلماني - من المساعدات الحكومية، لذا اضطرت المؤسسات الدينية - وهي عصب الأقلية المسلمة الأميركية - إلى الاعتماد على الذات في توفير مواردها، وذلك من طريق القرب من الجماهير والسعي الى تلبية طلباتها وحصد مساندتها ودعمها. هذه الخاصية المهمة فرضت على المنظمات المسلمة الأميركية عدم النخبوية ودفعتها إلى القرب بأكبر قدر ممكن من الجماهير والتعبير عنها بصدقية عنها، كما أنها أشعرت الجماهير المسلمة الأميركية بأن منظماتهم تمثلهم وتعبر عن حاجاتهم وطموحاتهم. أما عملقة المجتمع الأميركي فقد دفعت مختلف الجماعات الأميركية سواء دينية أو علمانية أو إثنية أو غير ذلك لمحاولة تعظيم مصالحها من خلال تنظيم أنفسها في شبكة معقدة ومتشابكة من المؤسسات. لذا سعى المسلمون الأميركيون منذ بداية مرحلة استيطانهم بأميركا في ستينات القرن العشرين في بناء أكبر عدد من المؤسسات الدينية والثقافية التي تمثلهم، والتي قد يصل عددها الآن إلى أكثر من 2500 مؤسسة غالبيتها مؤسسات دينية وتعليمية وثقافية، إضافة إلى أقلية من المنظمات السياسية والمعنية بالحياة العامة الأميركية. وبمرور الوقت نمت على السطح شبكة صغيرة من المنظمات المسلمة الأميركية المعنية بالشؤون العامة التي باتت تسعى الى تمثيل الصوت المسلم الأميركي بخاصة على الصعيد السياسي والإعلامي عبر الولاياتالمتحدة، وأصبحت هذه المنظمات وأنشطتها وخطابها باباً مهماً لفهم الخطاب المسلم الأميركي والوقوف عليه. كما ساعد نمو المنظمات السياسية بدوره على زيارة رغبة المسلمين الأميركيين في بناء مزيد منها، لأن احتكاك المسلمين بالحياة السياسية والعامة الأميركية كشف لهم مدى حاجتهم الى منظمات قوية تمثلهم في المجتمع الأميركي المملوء بجماعات المصالح واللوبيات العملاقة. الخاصية الثانية: وهي وجود إجماع شبه كامل في أوساط المسلمين الأميركيين على ضرورة المشاركة في الحياة السياسية والعامة بالولاياتالمتحدة والاندماج بالمجتمع الأميركي، هذا الإجماع تحقق لأسباب مختلفة من بينها دور المنظمات المسلمة الأميركية وقدرتها على فتح قنوات تواصل مع مؤسسات الدول والمجتمع الأميركي الرئيسة. فتح هذه القنوات أعطى الجماهير المسلمة الأميركية شعوراً تدريجياً بالأمل وبوجود فرصة للتأثير من خلال أدوات العمل العام المتاحة، وهي قناعة تمثل خطوة محورية على طريق الشعور بالاندماج، لذا تشير أحدث الاستطلاعات الخاصة بتوجهات المسلمين الأميركيين نحو المشاركة في الحياة العامة الأميركية - ومن بينها استطلاع أجراه مشروع المسلمين في الساحات العامة الأميركية التابع لجامعة جورج تاون - إلى أن معدلات الرغبة في المشاركة في مسلمي أميركا تفوق حاجز التسعين في المئة، وهي من دون شك نسبة مرتفعة تبرهن وجود الإجماع الذي تحدثنا عنه سابقاً. سبب آخر يتعلق بطبيعة مسلمي أميركا كأقلية تضم نخبة من أصحاب الخبرات القادمين من العالم الإسلامي بحكم قوانين الهجرة الأميركية التي شجعت هجرة آلاف الطلاب والخبراء المسلمين سنوياً لسد حاجات سوق العمل الأميركية للخبراء المتخصصين، وبمرور الوقت استوطن آلاف المهاجرين المسلمين في أميركا وباتت وطناً لهم، وباتوا بخلفياتهم التعليمية والمهنية العالية أقلية متميزة راغبة في الانفتاح على المجتمع الأميركي بحكم انفتاح المسلمين الأميركيين اليومي كأفراد على أرقى مؤسسات المجتمع الأميركي التعليمية والاقتصادية، ويمكن هنا الإشارة إلى أن متوسط المستوى التعليمي بين المسلمين الأميركيين يفوق متوسط المستوى التعليمي العام داخل المجتمع الأميركي. كما يلاحظ هنا أن أحداث الحادي عشر من أيلول وتبعاتها القاسية لم تضعف هذا الإجماع، بل يمكن القول إنها قوته، ولكنها مع الأسف قوّت - في الوقت ذاته - من نفوذ أقليات أميركية متحيزة ضد مشاركة المسلمين والعرب النشطة في الحياة السياسية والعامة الأميركية، وتجب هنا الإشارة إلى أن جهود هذه الجماعات السلبية لن تضر بعجلة اندماج المسلمين الأميركيين وحدهم فضررها الأكبر سيعود على المجتمع الأميركي ذاته والذي سيخسر تدريجاً إسهامات الكثير من المستوطنين المسلمين الأميركيين وغيرهم من الأقليات الأميركية التي تعاني موجات العداء للهجرة والمهاجرين المتزايدة في أميركا خلال الفترة الراهنة. الخاصية الثالثة ترتبط بالتعددية داخل المجتمع المسلم الأميركي ذاته، حيث يلاحظ أن التنوع العرقي والإثني واللغوي والمذهبي يمثل أحد أهم خصائص المسلمين الأميركيين، وهو تنوع يتطلب خطاباً يعكسه ويضع حلولاً له، ويمكن القول إن المنظمات المسلمة الأميركية الكبرى باتت حريصة على أن تتبنى هذا التنوع كخطاب وكسياسة داخل بنيتها الداخلية وممثليها، كما باتت القدرة على التعامل مع التنوع تمثل شرطاً ضرورياً لنجاح المنظمات المسلمة الأميركية. ويقول البعض أن سعة القارة الأميركية ساعدت الأميركيين تاريخياً على التعامل مع التعددية والتنوع، فأميركا بلد واسع مترامي الأطراف ومن لا يعجبه العيش في مدينة ما يمكنه أن يرحل إلى أي مدينة أميركية أخرى والمدن الأميركية عديدة، وقد لا يمتلك المسلمون الأميركيون - وبخاصة المهاجرين الجدد منهم - مثل هذه الرفاهية، كما أن الضغوط السياسية والإعلامية التي يخضعون لها قد تزيد من انقساماتهم الداخلية بحكم أن بعض هذه الضغوط تسعى في شكل واضح الى فرض رؤى معينة على المسلمين الأميركيين وتقوية الجماعات المساندة لتلك الرؤى. لكن الضغوط الخارجية لا يجب أن تمنعنا من إدراك أن التعامل مع التنوع هو واجب مفروض على المسلمين الأميركيين من الداخل قبل الخارج، وأن أفضل سبل التعامل مع هذا التنوع هو تطوير أفكار مسلمة أميركية جديدة تشرح للمسلمين كيف يتعاملون مع الآخر داخل المجتمع المسلم الأميركي وخارجه. وفي الختام يمكن القول إن الخطاب السائد في أوساط مسلمي أميركا حريص على التعبير عن احترامه للتعددية والتنوع والتسامح والحرية كقيم أساسية للمسلمين الأميركيين، وهي قيم يجب دعمها بتطوير مزيد من الأفكار وبناء مزيد من المنظمات المعنية بحماية هذه القيم ونشرها في أوساط مسلمي أميركا عموماً وفي المحيط الأميركي العام بشكل عام بخاصة خلال الفترة الراهنة التي تشتد فيها الحاجة الى نشر وإعلاء تلك القيم. * باحث عربي مقيم في واشنطن