يبدو أن الأزمة الأميركية - الإيرانية حول البرنامج النووي الإيراني خرجت من سياقها الثنائي الأميركي - الإيراني إلى سياقين آخرين: الأول عالمي تلعب فيه روسياوالصين دوراً أساسياً في مواجهة الزعامة الأحادية الأميركية للنظام العالمي في لحظة غير مواتية لواشنطن لضمان أو تأمين التفوق في هذا المستوى من الصراع. والثاني إقليمي، ربما ليس بالدرجة نفسها من التبلور والوضوح لكنه أخذ يفرض نفسه، تلعب فيه دول الخليج بزعامة السعودية دوراً مميزاً وتشارك فيه كل من سورية والعراق على أمل انضمام تركيا كطرف فاعل في مواجهة طموح إسرائيلي للقيام بدور الوكيل الإقليمي للدور الأميركي في الأزمة الأميركية - الإيرانية. تأمل هذا التطور المهم يكشف عن حقيقتين تفرضان نفسيهما الآن: الحقيقة الأولى أن معالم نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بدأت تتكشف مع كل يوم تخوض فيه كل من روسياوالصين تنافساً أو"تناطحاً"مع العملاق الأميركي، ومع كل يوم تفقد فيه واشنطن قدراً من سطوتها على التحالف الغربي. أما الحقيقة الثانية فهي أن إيران هي العامل المشترك في مجمل التطورات التي تحدث ضمن هذين السياقين العالمي والإقليمي، ولعل هذا ما دفع خافيير سولانا المنسق الأعلى لشؤون السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، قبيل ذهابه إلى طهران ليسلم المسؤولين الإيرانيين ما عرف ب"رزمة الحوافز"التي عرضتها الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن اضافة الى ألمانيا، إلى الإشادة بإيران ووصفها بأنها"قوة دولية صاعدة"، وأنها"سوف تصبح طرفاً مهماً للغاية على الساحة العالمية". الحقيقتان تكشفان بدورهما عن حقيقة ثالثة لا تقل أهمية وهي أن إيران تتحول"خطوة خطوة"إلى مركز أو إلى بؤرة استقطاب للتفاعلات الدولية والإقليمية، سواء كانت هذه التفاعلات صراعية أم تعاونية، بما يعني أنها سوف تكون لاعباً أساسياً في أي مشروع للتعاون الاستراتيجي الإقليمي من ناحية، ومحوراً للاستقطاب في منظومة الصراع العالمي الاستراتيجي حول الزعامة في النظام العالمي من ناحية أخرى. لقد شهد العالم أخيراً مجموعة من التفاعلات على المستويين العالمي والإقليمي تؤكد هذه الحقيقة. فعلى المستوى العالمي اضطر الرئيس الأميركي جورج بوش أن يغير جذرياً من سياسته في إدارة الأزمة مع إيران حول برنامجها النووي، بعد أن أدرك حقيقتين لعبت إيران الدور الأساسي في فرضهما: الحقيقة الأولى أن الحل العسكري لهذه الأزمة يبدو مستحيلاً لفداحة الخسائر من ناحية وضآلة المكاسب من ناحية أخرى التي يمكن أن تتحقق من هذا السيناريو أو من هذا الحل. والحقيقة الثانية أن الولاياتالمتحدة باتت عاجزة عن فرض عقوبات اقتصادية أو سياسية ضد إيران من داخل مجلس الأمن، بسبب جدية الرفض الروسي والصيني لمثل هذه العقوبات. لذلك اضطر الرئيس الأميركي أن يعرض صفقة حوافز لإيران شديدة الإغراء مقابل وقف مشروع تخصيب اليورانيوم، كما اضطر أن يقبل بمشاركة الولاياتالمتحدة في"تفاوض مباشر"مع إيران. وجاءت صفقة"رزمة الحوافز"ضمن معادلة أرادتها واشنطن وهي تأمين موافقة روسية وصينية على العودة مجدداً إلى مجلس الأمن في حالة رفض إيران هذه الصفقة. بكل المعايير لا يمكن فهم طرح الولاياتالمتحدة هذه الصفقة إلا أنها مؤشر أولاً لجدية الدور الروسي والصيني في النظام العالمي في مواجهة الزعامة الأحادية الأميركية لهذا النظام، ومؤشر ثانياً لجدية التحالف الإيراني مع كل من روسياوالصين. فعلى المستوى العالمي شاركت إيران كعضو مراقب في قمة"منظمة شنغهاي للتعاون"التي عقدت في بكين في اواسط حزيران يونيو الماضي، وهي المنظمة التي تضم في عضويتها كلاً من الصينوروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، كما تشارك كل من الهندوإيران ومنغوليا فيها بصفة مراقب. مشاركة إيران هذه المرة في مؤتمر قمة منظمة شنغهاي جاءت في وقت حرصت فيه الدول الأعضاء، خصوصاً روسياوالصين على تأكيد مكانتها"كموازن دولي جديد"قادر على مواجهة الخلل في هيكلية النظام العالمي منذ سقوط جدار برلين وانهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي. كما جاءت مشاركة إيران في هذه القمة مميزة هذه المرة، فقد كان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد نجم هذه الدورة، وحرص في كلمته أمام القمة على الدعوة إلى تحقيق التعاون بين دول هذه المنظمة الذي"يمكن أن يوقف تهديدات قوى مهيمنة باستخدام قوتها ضد دول أخرى والتدخل في شؤونها"، كما عرض استضافة اجتماع لوزراء الطاقة في الدول الأعضاء والدول المراقبة في المنظمة"لتنسيق الإنتاج واستخدام موارد الطاقة في المنطقة". دخول إيران كطرف مشارك وفاعل في هذه المنظمة التي أخذت توسع من التعاون الاقتصادي والعسكري بين أعضائها أجرت روسياوالصين مناورات عسكرية مشتركة ضمن إطار هذه المنظمة في آب/ أغسطس 2005 وكانت بمثابة رسالة مهمة لواشنطن يشير إلى وجود فرص مهمة أمام إيران للظهور كلاعب قوي اقتصادي وعسكري ضمن إطار هذه المنظمة، ومن ثم الحصول على الدعم والحماية اللذين ظهرت معالمهما أخيراً من خلال الانحياز الصيني والروسي إلى جانبها في أزمة ملفها النووي، وأيضاً من خلال التصدي الصيني لانتقادات أميركية لإيران بأنها"دولة تدعم الإرهاب". وقال الأمين العام لمنظمة شنغهاي جانغ ديجانغ:"لا نوافق على إطلاق عبارة دولة تدعم الإرهاب على دولة لها صفة مراقب في منظمة شنغهاي للتعاون". وكان وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد قد انتقد في سنغافورة الدعوة التي وجهت لإيران للمشاركة في قمة"منظمة شنغهاي للتعاون"قائلاً:"من المستغرب دعوة إحدى الدول الأكثر تورطاً في الإرهاب، أي إيران، إلى منظمة تقول إنها ضد الإرهاب". هذا الانتقاد لم يكن موجهاً فقط ضد إيران بل أيضاً ضد المنظمة وبالذات ضد الصينوروسيا ضمن الأزمة الناجمة عن الخروج الروسي والصيني على الهيمنة الأميركية. أحد مظاهر هذا الخروج الروسي نجاح روسيا في استعادة سيادتها ومكانتها في كثير من المجالات وامتلاكها القدرة على التحدي، وهي القدرة التي تتعاظم يوماً بعد يوم. وكان خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 10 ايار مايو الماضي قد حمل الكثير من الدلالات على استعادة روسيا هذه القدرة، حيث أكد عزمه على الاستمرار في تقوية بلاده على الأصعدة كافة ومنها التكنولوجية والنووية، والحفاظ على موقعها الدولي، وزيادة ميزانيتها العسكرية لجعلها قادرة على"مواجهة نزاع عالمي ونزاع إقليمي ونزاعات محلية عدة في آن واحد". ولم تكن أنباء القمة الأميركية - الأوروبية الأخيرة التي عقدت في فيينا في 20 حزيران يونيو الجاري مواتية للولايات المتحدة وأظهرت عمق الخلافات الأميركية - الأوروبية حول ملفات تجارية وأخرى سياسية من أبرزها الاختلاف على معتقل غوانتانامو والدفاع عن الديموقراطية وبالذات ما عرف ب"المعتقلات الطائرة"، حيث قامت طائرات أميركية محملة بمعتقلين بنقلهم إلى سجون في دول أوروبية مروراً بأجواء ومطارات دول أوروبية من دون علم سلطاتها. وعلق الناطق الرسمي باسم رئيس المفوضية الأوروبية، خوسيه مانويل، على هذه المسألة قائلاً:"من المهم التأكد أننا في الوقت الذي نحارب فيه الإرهاب لا نقوم بتخريب أنظمتنا القانونية والديموقراطية". هذا يعني أن هناك تطورات سلبية تحدث على مستوى التحالف الغربي الأميركي - الأوروبي وأخرى إيجابية تحدث على مستوى التحالف الشرقي إذا جاز التعبير بين روسياوالصين. ولم تكن ايران غائبة عن هذه التطورات بل كان حضورها قوياً وملحوظاً. أما على مستوى التطورات الإقليمية فإن بوادر قيام تحالف استراتيجي إقليمي أخذت تفرض نفسها يوما بعد يوم ابتداءً من إعلان عبدالله غُل وزير خارجية تركيا رفض بلاده تمكين الولاياتالمتحدة من استخدام قواعد عسكرية تركية لضرب إيران، ووصولاً إلى دخول السعودية وسورية والعراق كأطراف مباشرة في جهود منع الحل العسكري لأزمة البرنامج النووي الإيراني، وفرض معادلة جديدة للعلاقات تؤمِّن المصالح الإيرانية، لكن على الجانب الآخر هناك إسرائيل التي تريد أن تكون هي الأخرى طرفاً فاعلاً ومؤثراً في أي معادلة للعلاقات الاستراتيجية الأميركية. فقد حرص خافيير سولانا المنسق الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي على أن يزور إسرائيل وأن يطلع رئيس وزرائها ايهود اولمرت على مضمون صفقة"رزمة الحوافز"المقدمة لإيران، بل حرص على أن يذهب مباشرة من تل أبيب إلى طهران في إشارة مهمة لم تكن خافية على الدول الإقليمية الأخرى الثلاث: العراق وسورية والسعودية. فقد بادر العراق الى بحث أزمة الملف النووي الإيراني مع سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن اضافة الى المانيا، وأجرى اللقاءات معهم في بغداد عادل عبدالمهدي نائب رئيس الجمهورية الذي توجه بعدها مباشرة إلى طهران والتقى علي لاريجاني الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني والمسؤول عن الملف النووي، وعدداً آخر من كبار المسؤولين. وقبل أن يقوم الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي بزيارته التي يمكن وصفها بأنها"تاريخية"إلى طهران كان وزير الدفاع السوري قد غادرها بعد توقيع اتفاقية تعاون عسكري مع إيران، وبعد الحصول على تأكيد من وزير الدفاع الإيراني بأن"أمن سورية جزء من أمن إيران ومن واجبها الدفاع عنها". أما السعودية فقد اعلنت عن مبادرة تقوم على ثلاث قواعد لأزمة الملف النووي الإيراني هي: حق إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، وجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، والامتناع عن أي لجوء للخيار العسكري. وفي المقابل طرحت القيادة الإيرانية مشروعاً ل"التعاون الاستراتيجي"بين ما أسماه علي خامئني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية ب"جناحي"العالم الإسلامي: أي إيران والسعودية حول الملفات الثلاثة الرئيسية الكبرى: العراق وفلسطين ولبنان. وإذا كان هدف إيران على المستوى العالمي وضع كل من روسياوالصين في مواجهة الولاياتالمتحدة وإضعاف التحالف الغربي الأميركي - الأوروبي باللعب على أوراق تناقض أو على الأقل تباين المصالح الأوروبية والأميركية في الملف النووي الإيراني، فإنها تريد على المستوى الإقليمي أن يكون الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، أي أنها تريد بالتحديد فتح ملف الترسانة النووية العسكرية الإسرائيلية في حال قبول صفقة"رزمة الحوافز"التي يمكن أن تنتهي بقبول أميركي - أوروبي ببرنامج نووي سلمي لإيران ووضع كل القيود والضوابط لتأمين عدم خوضها تجربة امتلاك تكنولوجيا نووية عسكرية. من هنا بالتحديد يأتي السؤال المتعلق بمصر. أين مصر من هذا كله؟ مصر ضرورية لإنجاح المسعى الإيراني بتجريد إسرائيل من ترسانتها النووية العسكرية من خلال فرض مطلب جعل الشرق الأوسط خالياً من أسلحة الدمار الشامل، وهي دعوة مصرية قديمة. ومصر صاحبة مصلحة في هذا الطلب، ومصر أيضاً صاحبة مصلحة في أن تكون طرفاً فاعلاً في معادلة التفاعلات الإقليمية بل المحاور الإقليمية التي تنسج خيوطها الآن، وليس هناك من مدخل جاد وحقيقي لهذا كله دون تطور العلاقات المصرية - الإيرانية وإلا ستجد مصر نفسها معزولة عن واقعها الإقليمي وربما عن واقعها العربي إذا لم تمتلك المبادرة للدخول القوي إلى معترك هذه التفاعلات. * كاتب مصري