كان التدمير الواسع النطاق لفيتنام هو المخرج الذي اهتدت إليه واشنطن من معضلة تعذر انتصارها على مقاتلي الفيتكونغ وعدم تقبلها للهزيمة. ويتوجس المرء اليوم من أن إسرائيل تدفع سياسة سندها وحاميها وملتزمها الأميركي في الهند الصينية إلى نهاياتها القصوى، باستخدام أسلحة أشد فتكا، وضمن رقعة جغرافية أضيق، وضد بلد يفتقر إلى ظهير كالاتحاد السوفياتي والصين قبل 1972، وعلى أرضية افتقار الدولة المعتدية ذاتها إلى المرونة الاستراتيجية بالنظر إلى أن كل إخفاق عسكري لإسرائيل يعتبر تهديدا وجوديا لكيانها من وجهة نظر عقيدتها الأمنية والذاكرة التاريخية للصهيونية. يعزز التوجس ذاك أن فكرة إسرائيل عن إلحاق الهزيمة بحزب الله بالغة التطرف لا ترتضي بأقل من استئصال الحزب أو إبادته عسكريا وعدم الاعتراف به طرفا سياسيا. ويبدو تدمير لبنان مخرجا من استحالة اجتثاث حزب الله، وتعذر التسليم بالإخفاق في مواجهته. فما يجري منذ أسبوعين هو إحراق منظم للبنان بهدف إلحاق هزيمة مطلقة بحزب الله، يتراءى لإسرائيل أنه يستحيل إلحاقها به بأسلوب آخر. بعبارة أخرى، يبدو أن تحطيم المجتمع اللبناني والمراهنة على دفعه إلى تحطيم ذاته، هو سبيل إسرائيل إلى تجفيف الماء الذي يسبح فيه مقاومو حزب الله، ويموتون خارجه، إن استعدنا استعارة لماوتسي تونغ. تستفيد إسرائيل في ذلك من أن التنظيم الشيعي اللبناني، لأسباب معروفة، ليس تنظيما تمثيليا أو قابلا لأن يكون تمثيليا، أي أنه لا يسبح في كل الماء اللبنانية. تستفيد أيضا من أن أميركية المعركة الحالية تعادل إسرائيليتها وتهيمن عليها وتوجهها. وبينما لدى إسرائيل غريزة ثابتة تنزع نحو حروب قصيرة تخاض على أرض الخصم، فإن عنصر الوكالة الكبير جدا في حربها هذه وضرب حزب الله للداخل الإسرائيلي يقويان قلبها على تحمل الخسائر والصبر. ومن جانب آخر، يعني التوكيل الأميركي أنه ليس ثمة فرصة لحل دولي يفرض على الطرفين ويجنب لبنان ومجتمعه الدمار. فرغم أن المواقف الأوروبية أخذت تتمايز عن الموقف الأميركي، إلا أنه ليس لأوروبا وزن استراتيجي مستقل. ويفاقم من التبعية الاستراتيجية الأوروبية أن الدول العربية الأساسية أخذت مواقف لا تحرض الأوروبيين على اقتراح مبادرات مستقلة حقا، إن لم نقل إنها تشجعهم على الالتحاق بالأميركيين. ما لا يبدو أن الدول العربية تتبيّنه أن هزيمة حزب الله وانتصار إسرائيل مشكلة كبيرة جدا، عربيا ولبنانيا. فحتى لو صرفنا النظر عن حقيقة أن سبيل إسرائيل إلى هزيمة الحزب اللبناني ليس إلا تدمير لبنان ذاته، فإن من المحتمل أن الهزيمة تلك ستثير تفاعلات سلبية، داخلية لبنانية شيعية في مواجهة الطوائف الأخرى وعلى مستوى الشيعة في البلاد العربية، فضلا عما يثيره تحطيم حركة مقاومة تنال الاحترام في البلاد العربية كلها من استياء من الحكومات، ومن تزكية لتيّارات التطرف والعدمية والإرهاب. ليس حزب الله إرهابيا مهما يكن رأي الأميركيين والأوروبيين، فضلا عن الإسرائيليين. لكن سياسة الاستئصال الجذري الموجهة ضده، والتي لا يرتضي عنها بديلا الأميركيون والإسرائيليون، قد تتمخض عن نظير شيعي لمنظمة القاعدة. إن الإرهاب وليد امتناع المقاومة وليس التعبير الطبيعي عن أية مقاومة، وفقا لما تقضي به النظرية الأميركية الإسرائيلية. من شأن إدراك ذلك أن يدفع الحكومات العربية إلى سياسية أكثر استقلالا وأشد ضغطا على الأميركيين، لا لتجنيب لبنان دمارا متماديا، ولكن كذلك لاستباق تحولات يحتمل أن تجمع بين الإرهاب والطائفية على غرار ما نشهد في العراق. بعبارة أخرى، قد يفضي استئصال حزب الله إلى فتح الباب أمام تعميم الحالة العراقية ويسهم في تجديد شباب"الفتنة الكبرى"الإسلامية. معلوم، إلى ذلك، أن مختلف تنويعات سياسة الاستئصال في المجال العربي لم تسهم إلا في نشر التطرف وتعميم الإرهاب. الاستئصالية الأميركية الإسرائيلية "لا شريك لنا"، رفض التفاوض والندية، العنف المطلق ضد أية مقاومة... ليست استثناء، بل لعلها القاعدة أو النموذج الأصلي للاستئصاليات العربية. من هذه الوجهة يمثل اقتراح مخرج سياسي يلبي مطلب حزب الله باسترجاع الأسرى اللبنانيين، ويتعداه إلى حل مشكلة مزارع شبعا، ضمن ترتيب شامل، يمثل في الآن نفسه دفاعا عن حق لبنان في مستقبل مستقر وحق اللبنانيين في دولة قابلة للعيش، ومساهمة في تجنب انزلاق المشرق كله نحو طور جديد من هيمنة أميركية وإسرائيلية ألفْنا تطرفها ووحشيتها وطائفيتها، وفوق ذلك كله تمثل جهدا سياسيا عقلانيا وبعيد النظر مصوّباً نحو تجنب مخاطر حرب أهلية إسلامية قد تنتشر في بلاد عربية كثيرة. انتقاد حزب الله من وجهة نظر التوقيت أو توفير الذريعة للعدوان لا يصلح أساسا لسياسة متماسكة إزاء الحرب الإسرائيلية التي تتجاوز، عسكريا وسياسيا، حزب الله، ولبنان ذاته، وحتى فلسطين، نحو طور متقدم من إعادة بناء المنطقة حول إسرائيل وأمنها دون أي اعتبار لأمن الدول العربية وتماسك مجتمعاتها. وليس من مصلحة الدول العربية القبول بإخراج حزب الله من السياسة، دع عنك الوجود ذاته، خارج ترتيب شامل يضمن للبنان كامل حقوقه وسيادته. بل إن جوهر دورها المفترض يقوم على أن حزب الله طرف في الحرب، وينبغي أن يكون طرفا في ترتيبات التسوية اللاحقة لها، في مرحلة أولى على الأقل. في مرحلة لاحقة، يدمج الحزب في النظام السياسي اللبناني وينضوي تحت السيادة اللبنانية الواحدة على قدم المساواة مع غيره. لا مناص من ذلك من أجل أن يكون ممكنا القول لعرب آخرين إن أكتاف لبنان لا تتحمل ما يتجاوز شبعا والأسرى وسيادة لبنان. لقد تبددت فرصة صياغة جهد عربي مشترك من أجل مقاربة شاملة تعالج جذور الصراع، وذلك بسبب ضيق المنظور الذي أطل منه الفاعلون العرب على الجولة الراهنة منظور"الهلال الشيعي"ومخاطر الصعود الإيراني...، أو بسبب توسيع مفرط للمنظور يجعل من الحرب معركة"الأمة"، ويدرجها في سياق مواجهة تتخطى فلسطين نحو آفاق سورية وإيرانية. غير أن مقتضيات العدالة والحنكة تلتقي معا لتزكية لبننة الصراع، تمييزا عن إدراجه في بعد إيراني أو سوري...، أو قصره على حزب الله وحده. نقول الحنكة لأنه بينما يحتمل أن حزب الله رغب من وراء عملية 12 تموز يوليو في تعزيز وزنه في النظام اللبناني من جهة، وربما نصرة قضية سورية وإيران من جهة ثانية، فإنه يمكن لسياسة رشيدة أن ترتب نتائج سياسية مستقلة عن دوافع الفاعل الأصلي على المواجهة التي تلت"نتائج لبنانية، غير إقليمية وغير فئوية معا. إذا وجدت إسرائيل في أسر جندييها فرصة استراتيجية لمباشرة برنامج واسع يتخطى واقعة الأسر، فما الذي يمنع أطرفا عربية ولبنانية من فعل الشيء نفسه؟ ونقول العدالة لأن الحق اللبناني يتجاوز أي نقاش حول الوسائل والأوقات. وإنه لمنصف أنه حين تكون جميع الأوقات والوسائل غير مناسبة من أجل الحق فإن غير المناسب يغدو هو المناسب عينه. ورغم أن إسرائيل لم تقصر في اللبننة من اللحظة الأولى، فإن النخبة السياسية اللبنانية، هي الأخرى، لم ترتفع إلى مستوى تسييس جولة الصراع الراهنة ومحاولة استثمارها لأغراض وطنية لبنانية. بدلا من ذلك فضل جناح واسع منها"تلطيش"حزب الله و"حُماته"، وآثر جناح آخر الالتحاق به والهتاف له. هذا يلقي ظلالا من الشك العميق على أهلية الجناحين السياسية، كيلا نقول على هزال مفهومهم للوطنية. ينذر السلوك السياسي لكل من الحكومات العربية والنخبة اللبنانية بأن يكون دورها محدودا في رسم مستقبل مجالها ذاته بعد أن تسكت المدافع. فليس لمن لا يشارك في سياسة الحرب أن يأمل في فرص كبيرة للمشاركة في حروب السياسة.