أطلقنا صرختنا الأولى إثر هزيمة حزيران يونيو، ومنذ تلك اللحظة لا نكف عن إطلاق الصرخات، ولا نستطيع النوم إلا وعيوننا تنطبق على أشلاء الأطفال في جنين وقانا ومروحين! ودائماً كانت ثمة"يا وحدنا"مجروحة، ترفرف في الأفق العربي، بينما تنطلق الشاحنات المحملة بالأدوية والمعلبات إلى المقابر الجماعية، وإلى حقول حصاد المؤجلين في قائمة الموت. لم نعد نعرف كم يلزم من دم كي يعترف العالم بأن اللبنانيين والفلسطينيين بشر حقيقيون! ولم نعد نعرف كيف نوفق بين الرغبة في الحياة وحبها، وبين إدارة الظهر لكل ما اختزناه من أحلام، وكل ما هجسنا به من حرية. ما معنى هذه الفانتازيا التي تسم حياتنا اليومية؟ وماذا نسمي هذا التلاعب الأممي بنا إنْ لم يكن عبثاً مطلقاً؟ وأي واقع سوريالي نجد أنفسنا فيه بريشة القتل الأكثر حداثة في التاريخ؟ هم لا يعرفون ماذا تعني بيروت! بيروت أمنا التي أنجبت فيروز ووديع الصافي وأدونيس والسياب ومحمود درويش وأمل دنقل... بيروت أمنا التي وفرت لنا صغاراً وكباراً"الأديب"وپ"الآداب"... بيروت أمنا التي تعبت لتهيئة بيدر دار العودة والآداب وابن رشد وابن خلدون والكلمة... بيروت أمنا التي سهرت علينا، وبكت جراحنا العربية خلسة في كبرياء الأمهات... بيروت أمنا التي هدهدتنا وغنت لنا بصوت حنون لكي ننام مطمئنين... بيروت أمنا التي لاقت من العقوق ما لم يحدث لأم أخرى على هذه الأرض، لكنها وهي التي أدمنت هذا العقوق لم تستطع أن تنزع أمومتها من أعماقها، فظلت ذلك الحضن الذي نعود إليه كلما أضاعتنا الطرقات... اغفري لنا كما كنت دائماً يا بيروت... اغفري لنا خطايانا وخياناتنا الكبرى... اغفري لنا هذا العجز وأنت تتألمين في شموخ الأمهات... نعرف أنك ستقومين يا ابنة الفينيق، ولكننا لا نعرف إن كنا قادرين على التحديق في وجهك بعد اليوم! ولا نعرف إن كنا قادرين على احتساء فنجان قهوتك المرة في أحد مقاهيك الصباحية بعد اليوم! ولا نعرف ماذا سنقول لأبنائنا عنك عندما يكبرون ويسألوننا عما فعلناه لك يا أمنا بيروت! ها نحن نتلعثم منذ الآن أمامهم، وندير وجوهنا خجلاً من عجزنا المزمن... ها نحن نغمض أعيننا على جرحك المفتوح، ولكننا لا نستطيع ونحن نضع أصابعنا في آذاننا أن نحول بيننا وبين صوت فيروز وهي تغني لقمر مشغرة وجبل صنين، ولزياد الرحباني وهو يتساءل بمرارة: شو هالإيام اللي وصلنا لها؟ أمنا بيروت... يا إلهي كم يكفي المرء أن تكون له أم كبيروت! ويا إلهي كم هو مفجع أن يكتشف المرء هذا الأمر متأخراً كما حدث لنا! كاتب اردني