كنا شباباً.. وكنا نحلم بأشياء كثيرة لعل من أهمها السفر، والتواجد في المرافئ والموانئ مبهورين حالمين باصطياد لحظات فرح، والتعرف على عوالم أخرى تفتح أمامنا رؤى إنسانية، وثقافية، ومسلكية، وتنويرية تكون مؤسّساً لوعينا، ومكرسة لمحاولاتنا في الفهم، والقناعات، والارتواء من منابع جديدة في صياغة العقل، وغربلة المخزون المعرفي. وكان لبنان يعيش في ذاكرتنا كحلم.. لم نتعرف عليه بعد كجغرافيا، وحياة، وممارسات، وأنماط فهم. كنا نعرف «فيروز» ومن خلال قاموسها ولغتها وروعتها وقامتها الشامخة جداً بطول الجبال عرفنا لبنان. وعرفنا أناقة هذا البلد الجميل، وسحره، وعذوبته من خلال «غناني» فيروز. تعرفنا على «الضيعة»، وطير الوروار، والحبق، وطائر السنونو، والقرميد، وجبل الشيخ، ووادي التيم، وقمر «مشغره» من خلال هذه الرائعة بحجم الكون. وانبهرنا، وحلمنا، وحلقنا في أجواء أسطورية مع «الميجنا» و«العتابا» و«أبو الزلف» ومواويل العشق والوجد والهيام مع ذلك الصوت الذي يدميك، ويفرحك، يأسرك، ويحررك، ويجعل الحياة محتملة إلى حد الاشتهاء. «في لنا ياحب خيمة ع الجبل. ناطرة تنزورها بليلة غزل راكعة الغيمات عند حدودها ناشره النجمات من فوقها قُبل» كانت فيروز مسكناً لأوجاعنا، ومقطباً لجراحنا النازفة، بلسماً يشفينا من التفتت، والانكسار، والتلاشي. كانت فيروز بحجم وطن، بحجم شعب، منارة للضائعين، والحيارى، والتائهين، والمعذبين. أهدت لإنسان الوطن العربي الفرح، وأمدته بقوة لمقاومة كل أشكال العذابات، والانهيارات، وحصنته ضد اليأس، والقهر، والضياع. لم تكن فيروز فنانة فحسب. كانت مقاومة كبيرة ضد كل أساليب الدمار، والحروب، وإلغاء الإنسان، واستباحة كرامته، ومصادرة حياته. في زمن الحرب اللبنانية، وحدت اللبنانيين، كل اللبنانيين. انقسمت بيروت الكبرى إلى شطرين. بيروتالغربية التي صارت مناطق المسلمين، وبيروتالشرقية التي صارت مناطق المسيحيين. وظلت فيروز وهي المسيحية (روم أرثوذكس) في البناية التي تسكنها في رأس بيروت، وفي منطقة الروشة طيلة أيام الحرب وبعد الحرب، بين المليشيات، والمنظمات، والمتقاتلين من كل الاحزاب في المنطقة الإسلامية تغني للحب، والسلام، وتوحد اللبنانيين، ومع هذا لم ترشق بنايتها الا بالورود..!؟. وقبل يومين منحت فيروز الدكتوراه في الجامعة الاميركية ببيروت وفي قاعة الاسمبلي بجانب عظماء كبار مثل زويل وتويني وريتشارد دبس، وهو تكريم للفن العظيم الخالد، وتكريم لمن أعطى بنزاهة. وشموخ، ووعي. تكريم فيروز هو أقل ما يمكن أن يكون لهذه الإنسانة العظيمة. والسؤال: لقد عشنا في زمن فيروز، والرحابنة، ونصري شمس الدين، ووديع الصافي. ألا نشفق على جيل يعيش في زمن جواد العلي (!!) وكاريوكا، وشعبان عبدالرحيم..!؟.