نهار الخميس الفائت كتب فادي زيدان على صفحته على فايسبوك: «بدءاً من هذه اللحظة أنا ابن الشهيد محيي الدين زيدان...». فادي زميلنا في الصحافة والشقاء، الشاب الدمشقي، قُتل والده إعداماً في المجزرة التي ارتكبها النظام السوري في منطقة جوبر في دمشق. قال فادي إن رصاصة واحدة في الرأس قتلته، وبعد أن أخبرته والدته هاتفياً بمقتل والده، تمكن من الوصول إلى «يو تيوب» حيث صُورت جثث قتلى مجزرة جوبر، وكان قد شاهد «يو تيوب» قبل ذلك بساعات لكنه لم ينتبه إلى وجود جثة والده بين الضحايا. عاد فادي بعد أن تلقى الخبر من والدته إلى الفيديو، دقق في وجوه القتلى العشرين، وإذا بوالده، المحامي البالغ من العمر خمسة وخمسين عاماً، بينهم. صرخ ماهر في وجهه: «والدك يشبهك تماماً». ماهر الشاب السوري ابن الثلاثين (أمضى منها سبعة في السجن) تحقق من أن الجثة هي لوالد صديقه عبر ملاحظته شبهاً كبيراً بين الجثة وبين ابنها. في سورية اليوم لعبة اسمها الجثث. هذيان الجثث، وجوه الجثث، أدب الجثث وأبناء الجثث. لعبة فيديو خيالية، لكنها حقيقية، أن يعثر المرء على جثة والده في شريط فيديو، لا بل أن يكتشف صديق وجه صديق له في جثة والده معروضة على موقع «يو تيوب». هو منذ الآن فادي زيدان ابن ذلك الرجل الذي شاهدنا جثته في شريط الفيديو. فادي زيدان الذي كنا نعتقد أنه الشاب الصحافي الشجاع والموهوب الذي سبقنا إلى الصورة وإلى الخبر... وإلى حلب. الصحافي والمصور والمخرج الذي حمل دمشقيته وجال فيها في أرياف حمص وإدلب بعد أن ضاق به ريف دمشق. هو منذ الآن ليس هو. انه ابن محيي الدين زيدان الذي ظهرت صورة جثته في ذلك الفيديو، والذي كُتب اسمه بخط اليد على لافتة بدائية على رأس قائمة بأسماء عشرين سورياً أعدمهم النظام رمياً بالرصاص بتاريخ 19 أيلول (سبتمبر) 2012. غريب كم استدعى هذا الفيديو فينا من وقائع غير منسجمة. لقد أقمنا مع فادي أياماً في سورية، وليالي طويلة في بيروت، لم يكن الشاب فيها ابن أحد. أحياناً كان فادي المصور الشجاع، وأحياناً الرجل الغائب المُبدد المواعيد، وأحياناً العاشق الهارب، وأحياناً الشيوعي الخجول المتعثر بشيوعيته. لم يكن يوماً ابن أحد، وأذكر أنه عندما كنا في سراقب، وبعد جولة قصف عابرة، تحدث مع والدته عبر الهاتف مخاطباً: «كيفك يا أم فادي»، شعرت في حينها بأن والدته ليست خارجه على ما كنت أتوهم، وبأنني وحدي من يُخرج أمه من صدره في أوقات القصف. كان ودوداً وولداً فرحاً بصوت أمه، وعرفت أن الاتصال جرعة عابرة بعد صوت القذيفة التي عبرت من فوق المنزل الذي كنا فيه. إنه منذ الآن «ابن الشهيد محيي الدين زيدان». سيختلف الأمر علينا نحن الذين عرفناه خارج سورية، ذاك أن خيالنا لم يحملنا على تصور حقيقة أن للطريد السوري أباً. الأمهات عبرن خيالنا على صورة كليشيهات، وهن أيضاً حفرن على وجوه أبنائهن شيئاً ما، لا سيما الشاميات منهن. ولكن ماذا عن الآباء؟ فالأصدقاء لم يحملوا إلينا شيئاً من وجوه آبائهم! جاؤوا إلى بيروت من دونهم. كانت الثورة في جزء منها نوعاً من هجران لزمن الآباء ولسلطة الآباء ولحزب الآباء. ولكن ها هو فادي يستعيد صورة والده، ويُصحح خطأ كنا ارتكبناه، وربما كان هو أيضاً ارتكبه. كم يبدو هذيانياً أن يُصحح خطأ في التخيل والتوقع والاعتقاد عبر لعبة جثث إلكترونية! ففن الجثث السوري أنشأ لغته القوية والقادرة على تحويل ال «غايمز» واقعاً وحقيقة، وبسرعة خيالية. أُعدم والد فادي في الصباح مع عشرين آخرين، وبدأت الصور بالوصول إلى كومبيوتر ابنه في بيروت ظهراً، وتحقق الشاب من جثة والده في الخامسة مساء، فكتب في السابعة على صفحته على فايسبوك: «بدءاً من الآن أنا ابن الشهيد محيي الدين زيدان». الموت في سورية هو موت موازٍ للموت الحقيقي، أو ربما الموت هنا موتان. ثمة جثة دُفنت على عجل في منطقة جوبر في دمشق، وثمة عائلة تلقت الخبر وبكت على الوالد، وأشقاء كثر حزنوا وفجعوا. نحن هنا حيال الموت الحقيقي. في المقابل ثمة فيديو للقتيل على «يو تيوب»، وابن له يجيد لعبة الصور ويعرف مراياها الكثيرة، وأيضاً ثمة أصدقاء كثر له دخلوا إلى المأساة من نافذتها الافتراضية، وهم كانوا عرفوا بها من صفحة فادي على «فايسبوك» من خلال إعلانه أنه منذ الآن «ابن الشهيد...»، بما يوحي بأننا أمام الموت الافتراضي. نعم، كنا في ذلك اليوم حيال موتين وإعدامين، ولم تقوَ الوقائع على تقريبهما، ذاك أن واقعاً افتراضياً هائلاً يفصل بينهما. «قُتل برصاصة واحدة في الرأس»، هكذا قال فادي بعد أن أجرى اتصالاً هاتفياً بوالدته. من بيروت عليك أن تتخيل وأن تُدقق في الفيديو، وأن تسأل عن سبب إعدامه في منطقة لا يقيم فيها، وأن تُقنع فادي بأن والده أُعدم لأنه سوري عادي فقط، وليس لأنه والده، ثم عليك أن تعيد التدقيق بالفيديو محاولاً قراءة الورقة التي كتبت على صدر الضحية. من دمشق عليك أن تبحث عن الجثة وأن تسأل أين دُفنت، ثم تعود بعدها إلى العائلة، وعليك أن تبكي وأن تُجري حسابات الغياب والموت وأن تسأل عن الأولاد. موتان وإعدامان، الأول ميداني والثاني افتراضي، وهناك الجثة وصورتها. وفادي الذي قبل بلعبة الصورة، وذهب بها إلى آخرها عندما غادر دمشق إلى ريفها حاملاً كاميرته، وجاء إلينا حاملاً صور أطفال وحكايات من حمص، قال إنه سينتقم لوالده... سيستمر في تصويرهم وهم يقتلون. أليست الكاميرا سلاح السوريين الوحيد؟ ويملك منها فادي أكثر من ثلاثٍ.