لم تكن زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بيروت استطلاعية بمقدار ما ان المحادثات التي أجرتها مع رئيسي المجلس النيابي نبيه بري والحكومة فؤاد السنيورة وقادة"قوى 14 آذار"، افسحت في المجال أمام التداول بمجموعة من الأفكار لا تتعلق بوقف العدوان الاسرائيلي على لبنان فحسب وإنما تجاوزته الى البحث في كيفية إعادة ترتيب الوضع في الجنوب انطلاقاً من وقوف المجتمع الدولي الى جانب السلطة اللبنانية في بسط سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية. فوقف العدوان الاسرائيلي وإن كان أرخى بظلاله على محادثات رايس في بيروت وتصدر اهتمام القيادات اللبنانية التي التقتها، فإن الاقتراح الأميركي بضرورة التوصل الى رزمة شاملة كأساس لعودة الهدوء والاستقرار الى لبنان أتاح الفرصة للبحث في العمق بالمقترحات التي يجرى التداول فيها دولياً واقليمياً وعربياً، خصوصاً أن الأبرز على صعيد النتائج للقاءات وزيرة الخارجية الأميركية تجلى في قول الأخيرة أمام بري"نعم"ثلاث مراتللبنانية مزارع شبعا وضرورة عودة السلطة اللبنانية اليها، من دون أن تأتي على ذكر نزع سلاح"حزب الله"في لبنان باستثناء المنطقة المعروفة بجنوب الليطاني التي يجب أن تكون منزوعة السلاح وتحت سيطرة القوات الدولية. وكان لقاء رايس - بري مشدوداً وشهد نقاشاً حاداً، وكان يتوقف أكثر من مرة بسبب شدة الاختلاف في وجهات النظر لإصرار الأولى على السلة الشاملة في مقابل مطالبة رئيس المجلس ببرمجة الحل على مرحلتين. وإزاء ذلك لم يكن في وسع بري سوى تأكيد التباين. وقالت مصادر مطلعة ل"الحياة"ان الأخير لم يكن في استطاعته أن يقول الا الكلام الذي قاله أمام رايس،"من غير الجائز من وجهة نظر بري أن يعلن عن التوصل الى اتفاق معها، طالما أن العدوان مستمر على لبنان وخصوصاً الجنوب، إضافة الى عدم وجود من يضمن الاعلان عن تفاهم مع رايس وهي في طريقها الى تل أبيب للقاء رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولمرت، خوفاً من أن تنتهي محادثاتها الى تبدل في الموقف الأميركي، مع أنها أكدت أنها اختارت بيروت كأولى محطاتها للوقوف على ما لدى المسؤولين من مقترحات لإعادة بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها". كما أن بري الذي يحمل تفويضاً مباشراً من الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله، لا يرغب في التفرد في الموقف من دون التواصل لاطلاعه على أجواء محادثاته مع رايس، وهذا ما يفسر ايفاده على وجه السرعة أحد المقربين منه للتشاور مع قيادة الحزب في الموقف من المقترحات من جوانبها السياسية والأمنية كافة". قوى 14 آذار الى ذلك، يحرص بري، الذي يتشاور مع السنيورة في كل شاردة وواردة ويتواصل دائماً مع رئيس كتلة"المستقبل"سعد الحريري وقادة"قوى 14 آذار"وخصوصاً رئيس"اللقاء النيابي الديموقراطي"وليد جنبلاط، على انتاج موقف لبناني موحد يقطع الطريق على إحداث شرخ بين القوى الأساسية المعنية بوقف العدوان وبلورة المقترحات لتمكين السلطة من بسط سيادتها. ويراهن بري بالتوافق مع السنيورة وقيادات قوى 14 آذار وقيادة"حزب الله"على مخاطبة الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي بلغة واحدة لا تترك مجالاً للعب على التناقضات أو منح"فرصة مجانية"للإفادة من ثغرات في الطرح اللبناني ازاء التوصل الى سلة واحدة. وأكدت المصادر المطلعة أن"قوى 14 آذار"لم تتحدث مع رايس من زاوية الثأر من"حزب الله"أو الدخول في تصفية حساب معه، أو بادرت الى التصرف وكأنها حيادية وغير معنية بمواجهة العدوان والتعامل مع تداعياته الانسانية والدمار الذي خلفه، وانما حرصت على استيعاب كل نتائجه انطلاقاً من الحفاظ على"حزب الله"كجزء أساسي من المشهد السياسي على رغم انتقاداتها الشديدة للنظامين السوري والايراني. كان لافتاً أن"قوى 14 آذار"ليست في وارد اتخاذ موقف يدفع"حزب الله"الى الانتحار أو اشعار الطائفة الشيعية ككل بأنها معزولة أو مستهدفة لإخراجها من المعادلة السياسية أو إضعافها لاستحالة شطبها. كما أن"قوى 14 آذار"تتطلع الى قيادة"حزب الله"، مراهنة على مبادرتها الى موقف لملاقاة الآخرين في منتصف الطريق. الأفكار الأميركية وبالعودة الى الأجواء التي سادت لقاءات رايس في بيروت ومقترحاتها، يشار الى أن بري ركز على استعجال عودة النازحين الى قراهم ومدنهم ونقل عنه قوله لرايس: أن عدد النازحين الى ارتفاع وأن الاحصاءات الأولية تتحدث عن هجرة أكثر من 800 ألف لبناني من بلداتهم وأن العدد الى تزايد طالما أن العدوان الاسرائيلي مستمر والذي لم يكن رداً على أسر الجنديين بمقدار ما إن هناك مخططاً اسرائيلياً مدعوماً اقليمياً ودولياً وإلا ما هو المبرر لحرب الإبادة التي تشنها اسرائيل واصرارها على تدمير لبنان بشرياً وانمائياً وإعمارياً؟ وأكد بري كما ينقل عنه زواره أن عودة النازحين الى بلداتهم باتت ضرورة ملحة، محذراً من عدم القدرة على استيعابهم في حال استمروا مدة طويلة خارج قراهم على رغم المساعدات العربية والدولية والمحلية لهم، لافتاً الى أن لبنان سيكون مهدداً بالفوضى السياسية، وبالتالي ما نفع المقترحات أكانت على مرحلتين أو في سلة واحدة اذا تأخرت عودتهم، فالحكومة ستنهار حتماً وبالتالي من هي الجهة الرسمية التي ستتكفل الالتزام بتطبيق ما سيتفق عليه ما دامت الحكومة غير موجودة؟ وعلمت"الحياة"أن السنيورة شدد أمام رايس على ضرورة الاسراع في إعادة النازحين وهو توافق مع بري وقوى 14 آذار بهذا الشأن، ما اضطر رايس الى التأكيد أن تسريع تعزيز قوات الطوارئ الدولية سيتيح عودة المهجرين سريعاً. وبالنسبة الى الموقف الأميركي من تثبيت لبنانية مزارع شبعا، تأكد لپ"الحياة"أن واشنطن بدأت تتقبل النصائح القائلة باعادتهما الى السيادة اللبنانية وهذا ما اشارت اليه مصادر ديبلوماسية غربية ل"الحياة"كاشفة عن دور بارز لعبته المملكة العربية السعودية على هذا الصعيد، لدى الادارة الأميركية، إضافة الى اصرار القيادات اللبنانية من رسمية وسياسية على ضرورة الحاق المزارع بلبنان. ومن ثمار هذه الجهود، ان توقفت رايس مطولاً أمام بري والسنيورة وقادة"قوى 14 آذار"حول تثبيت لبنانية المزارع باعتبار أن تثبيتها ومن وجهة النظر اللبنانية يشعر قيادة"حزب الله"بأنها لم تعط شيئاً من دون أي مقابل، إضافة الى الموقف من تبادل الأسرى اذ أن عضواً بارزاً في الوفد الأميركي المرافق لوزيرة الخارجية قال لمسؤول لبناني ان عملية التبادل لن تكون عقبة في وجه تطبيق الاتفاق في حال التوافق عليه من دون أن يدخل في التفاصيل أو الأسماء في اشارة مباشرة الى قضية عميد الأسرى اللبنانيين في المعتقلات الاسرائيلية سمير القنطار. لكن رايس وهي تتحدث عن مزارع شبعا سألت عن الموقف السوري من تثبيت لبنانيتها؟ فقيل لها ما المشكلة اذا كانت اسرائيل تقر بأنها ليست اسرائيلية وان المسؤولين السوريين يقولون إنها لبنانية،"ونحن من جانبنا سنضغط باتجاه دمشق من أجل تثبيتها استناداً الى ما هو معمول به في القانون الدولي". إلا أن الحديث عن لبنانية المزارع فتح الباب على مصراعيه أمام كيفية استعادتها، وقد نقل عن رايس أن استعادة المزارع ستتم على مرحلتين الأولى تتضمن تدويلها أي اخضاعها لسلطة وسيادة القوات الدولية بعد تعزيزها وتطوير مهمتها وذلك فور انسحاب اسرائيل منها، والثانية ترتبط باعادتها الى سيادة الدولة اللبنانية. أما بالنسبة الى تعزيز القوات الدولية فعلمت"الحياة"أن رايس لا تعترض على وجود ترابط بين تدويل المزارع وبين تحويل منطقة جنوب الليطاني الى منطقة عازلة منزوعة من سلاح"حزب الله"، علماً أنها لم تطرح نزع سلاح الأخير في المنطقة الخارجة عن نطاق جنوب الليطاني وكأنها متروكة للحوار الداخلي. كما أن رايس أشارت بطريقة أو بأخرى الى التمديد حالياً لقوات الطوارئ مدة شهر على أن يترافق ذلك في مرحلة أولى مع زيادة عددها وتطوير دورها لتكون قوة فاعلة في بسط الأمن الى جانب الجيش اللبناني. ونقلت مصادر وزارية عن رايس قولها إن التمديد للطوارئ مدة شهر سيفسح في المجال أمام اعادة النظر بمهمتها لجهة تزخيم دورها كقوة رادعة وفاعلة من دون أن تطرح على الأقل أمام بعض الذين قابلتهم، مسألة الاستعانة بقوات من حلف شمال الأطلسي ناتو في الوقت الذي تحدثت فيه عن تطعيم"اليونيفيل"بقوات روسية وفرنسية وتركية ومن دول اسلامية مثل باكستان واندونيسيا. وإذ تحدثت رايس بلهجة واثقة عن دعم الحكومة اللبنانية لتطبيق اتفاق الطائف والقرار 1559، لما فيهما من نقاط مشتركة، فإن عضواً في الوفد المرافق لها تحدث عن ضرورة الإفادة من عامل الوقت والاسراع بوضع حد للحرب، وكأنه يرد مباشرة على سؤال طرحه بري حول ماذا حققت اسرائيل من عدوانها بعد 13 يوماً على بدئه وهل نجحت في إضعاف"حزب الله"، بعد أن احتلت مدينة حتى الآن، فيما كانت حروبها السابقة على الدول العربية تنتهي باحتلال قسم من اراضيها في أيام معدودة؟ وفهم من كلام العضو في الوفد الأميركي أن تل أبيب لم تكن تقدر مدى قدرة"حزب الله"على الاستمرار في المواجهة والتصدي للعدوان وبالتالي لم يخف احساسه بأنه آن الاوان لوقف اطلاق النار. ماذا بالنسبة الى الموقف من دمشق وطهران باعتبارهما مؤثرتين في الساحة في"حزب الله"؟ في الاجابة لا بد من الاشارة الى أن بري كان سأل رايس عن الموقف منهما وهل يمكن واشنطن تجاهلهما، وجاء ردها"بأننا لا نتحدث معهما وأنتم كحلفاء لهما في وسعكم التحدث اليهما"، فأجاب رئيس المجلس: لطالما كنتم تتحدثون معهما في مثل هذه الازمات فلماذا الآن تطلبون منا الحديث عن التواصل معهما؟ وفهم أن خلاصة الموقف الاميركي، هو أن واشنطن لا تتحدث معهما مباشرة لكن هذا لا يمنع من خلال الاشارات التي التقطها بعض من قابل رايس موافقة الادارة الأميركية ضمناً على ترك الأمر لجهات عربية وأوروبية وروسية تتولى التواصل حالياً مع النظامين السوري والايراني، لا سيما ان قوى أساسية في"14 آذار"تعتبر أن زيارة مساعدة وزير الخارجية الروسية الكسندر سلطانوف دمشق تأتي في اطار تقديم النصائح لها على قاعدة أن موسكو داعمة ومؤيدة لبيان قمة الدول الثماني التي شارك فيها الرئيس فلاديمير بوتين. لذلك يبقى السؤال عن مدى قدرة واشنطن على تسويق حل شامل لعودة الاستقرار الى لبنان، وبالتالي التأثير مباشرة في تل أبيب، ولا سيما أن هناك صعوبة أمام رهانها على إحداث انقسام حاد في الساحة اللبنانية، نظراً الى أن القوى الرئيسة حددت الإطار العام للخطوط العريضة للأزمة التي يجرى حالياً التسويق لها أميركياً، من دون أن تترك مضاعفات محلية من شأنها أن تبقي"الحل"حبراً على ورق وتدفع بلبنان الى مزيد من التأزم، مع رهانها على دور قيادة"حزب الله"سواء بالنسبة الى قراءتها المعطيات الراهنة وتعاطيها بواقعية في ضوء وجود قرار دولي بعدم عودة الوضع الى ما كان عليه قبل 12 تموز يوليو تاركاً للاطراف اللبنانية التوافق على تصور شامل يخدم هذا التوجه. ويبدو أن الولاياتالمتحدة بدأت تعيد النظر بموقفها في اتجاه الأخذ ببعض ملاحظات الرئيس بري، بهدف الوصول الى اتفاق قابل للتنفيذ.