في أوقات سابقة كثيرة ومنذ ما يزيد على ربع قرن، كتبت كما كتب غيري، بما معناه أن أسواق النفط أسواق عالمية متعددة الجنسيات، ولا يهم كبار المشترين من شركات وسماسرة وغيرهم من مختصي المتاجرة في هذه الأسواق، من أين يتم استخراج النفط المعروض للبيع. بل لا يهم كثيراً كيف وصلت الكمية المعروضة للبيع الى هذه السوق أو تلك، فالموضوع نشاط تجاري بحت. وبالطبع هذا لا ينفي أن السياسيين، ولأسباب واعتبارات محلية في بلدِ من البلدان، قد يتحدثون عن محاولة عدم الشراء من كندا أو المكسيك أو ايران أو العراق أو البرازيل! غير أن الحصار الذي كان من المفترض أن يتم ضد استيراد النفط من النظام العراقي السابق، بما يزيد ثمن بيعه على تكاليف الغذاء والدواء للشعب العراقي المظلوم، أثبت ان صدام حسين والمقربين منه كانوا قادرين وبسهولة على"تهريب"النفط، في البدء إلى شركات وأفراد محددين، وفي مرحلة لاحقة، يبيع من حصلوا على تلك الكميات من نفط العراق، بطرق مشروعة وغير مشروعة، في اسواق النفط المعروفة لكل من له علاقة بتجارة النفط ومشتقاته. ولا يجادل من ذوي العلم أحد، في حقيقة أن النفط سلعة من السلع التي تباع وتشترى في الأسواق"الآنية"، وفي الأسواق"الآجلة"، على حد سواء. والأسواق الآجلة، التي سبق أن سمّاها رجل مشهور بأنها نوع من أنواع القمار، ليست في حقيقة الأمر إلا نوعاً من أنواع المضاربات الأخرى. ويوجد، ومنذ فترة طويلة، أسواق"آجلة"لمعادن كالنحاس والقصدير والذهب وغيرها، بل وأسواق"آجلة"للقمح والشعير وغيرها من مواد الغذاء والأعلاف. لكن"الأسواق الآجلة"بحد ذاتها ليست جوهر الموضوع. وسيتم الحديث عنها في المستقبل ان شاء الله. وقد تكون من المشكلات التي تتولد عن الأسواق الآجلة للنفط بالنسبة إلى الدول المصدرة، أن مستويات الأسعار التي يصل إليها أفضلها نوعاً في الأسواق الآجلة، أكثر بكثير من الأسعار المدفوعة لمصدري النفط. فحينما تردد وسائل الإعلام أن سعر النفط الخام من نوع"برنت"وصل في لندن إلى 60 دولاراً للبرميل، أو أقل أو أكثر، فكل ما يعنيه أن هذا النوع من النفط سيكلف من يريد أن يتسلمه في لندن، بعد فترة من الزمن تتراوح بين شهر وبضعة شهور، ولهذا النوع المحدد من برميل نفط"برنت"ستين دولاراً. والأسعار الحقيقية التي تحصل عليها الدول أو الشركات المصدرة للنفط، تشمل في ما تشمل تكاليف الاستكشاف والاستخراج والنقل من الآبار إلى الموانئ وإطفاء الحرائق، وغيرها من تفاصيل بالآلاف، يعرفها مهندسو النفط. القصد قوله بإيجاز، أن الأسعار المعلنة لنوع محدد، ومكان تسليم محدد في تاريخ محدد، تخفي أكثر مما توضح، وهي حتماً أكثر بكثير من الأسعار التي تباع بموجبها سلة نفط الدول المصدرة له، حتى قبل أن تُحسب التكاليف الكثيرة منذ بدأ الاستكشاف إلى ان وصل النفط الخام إلى أماكن تصفيته واستخراج مشتقاته. حتماً للنفط علاقة، كما لغيره من السلع، بالسياسة، لأن العوامل السياسية كالاستقرار السياسي وأمن المنشآت وأمن وسائل النقل وطرقه، تؤثر في أسعار النفط، مرة أخرى كما في غيره، لأنها تؤثر في المعروض وفي المطلوب، والأهم أنها تؤثر في ما هو"متوقع"عرضه وما هو"متوقع"طلبه في المستقبل. والذي قد يسبب اللبس بين سلعة النفط وغيرها من المواد الخام، أهميتها في توليد الطاقة، ونسبة تكاليف الطاقة في الاقتصادات الحديثة بين بقية انواع المواد الخام، التي بدورها تحتاج إلى طاقة لتوفيرها. وبالطبع، تستطيع الدول المستهلكة للنفط التقليل من كميات الاستهلاك، إذ توجد بدائل له في الاستهلاك، وفي"انتاج"ما يستخدم النفط في انتاجه أو استخدامه. ومن بدائل النفط التي لا تغيب عن بال أحد، مصادر الطاقة الأخرى المعروفة، متى كان مجدياً اقتصادياً استخدامها، كالفحم الحجري أو الوقود النووي. ولكن الذي لايكون واضحاً كبديل للنفط، هو تكاليف الاستثمار في انتاج آليات تمكن الاستفادة منها باستخدام كميات أقل من الطاقة. فعلى سبيل المثال، كمية الطاقة التي نحتاجها لتشغيل ثلاجة أو سيارة أو طائرة، تقل اليوم عن مثيلاتها التي تم انتاجها في عام 1988، بنسب مختلفة يتراوح تقديرها بين خمسين في المئة وثمانين في المئة. القضية قضية تكاليف وأسعار، وليست قضية من أين يأتي النفط وأين يباع. وليست قضية"الرغبة"في ايجاد البدائل لأسباب سياسية أو بيئية أو غيرها. ومعروف أن استخدام الطاقة الكهربائية أو استخدام الهيدروجين أو كليهما معاً لتسيير السيارات ممكن تقنياً. لكن كيف يتم انتاج بطاريات الطاقة الكهربائية لتسيير السيارات؟ وكيف يتم انتاج الهيدروجين؟ ان انتاج أي طاقة بديلة للنفط يحتاج إلى طاقة اخرى لإنتاجه، وفي معظم الأحيان يكون النفط أو ابن عمه الغاز هما ما يستخدم. والغاز بديل ممتاز للنفط في كثير من الاستخدامات. والذي يقرر ماذا يستخدم هو تفاوت الأسعار والتكاليف. وختاماً، ينبغي ألاّ يخشى أحد من مواطني الدول أو موظفي الشركات المنتجة للنفط، أنه سيتم الاستغناء عنه غداً أو بعده بعام أو بضعة أعوام. وقد قال لي، وفي حضور آخرين، رئيس مجلس الإدارة الرئيس التنفيذي لشركة نفط عالمية كبيرة مما يسمى من متعددة الجنسيات، انه ليس لديه أي درجة من درجات القلق من بوار سلعة النفط في الخمسين أو المئة سنة المقبلة. "أبشر بطول سلامة يا مربع". المهم أن نكون قادرين على اكتشاف النفط واستخراجه واستثمار عائداته في المستقبل المنظور والبعيد. والله من وراء القصد أكاديمي سعودي.