أرائك غرفة الجلوس ليست وفق تنسيقها المعتاد، إذ عمدت فاطمة إلى إلصاقها بعضها ببعض لفسح المجال للمزيد من المقاعد، فيما أطباق الحلوى على مائدة غرفة السفرة تنتظر الضيوف. إنه الخميس الثاني من الشهر، موعد استضافة فاطمة للواعظة أم العبد ومريداتها، فمنذ أكثر من عام اتفقن على تحديد يوم في الشهر تستضيف فيه إحداهن أم العبد للاستزادة من الدين، والسؤال عن الشريعة والحياة. ترى فاطمة، وهي أم لأربعة أبناء وتقيم في العاصمة الأردنيةعمان، أن زيارات الواعظة تنطوي على"فائدة عظيمة"، اذ ان الحاضرات للدروس"يتدارسن أمور دينهن ويسهمن في خدمة مجتمعهن كما أنهن يمرحن من دون"أكل لحم أحدهم ميتاً النميمة". وينقسم وقت الدرس الذي لا يتجاوز الساعتين، إلى أربع مساحات زمنية، أولها التذكير، وثانيها التخطيط، وثالثها التجويد ورابعها مفتوح للأسئلة. وتشرح فاطمة الملتزمة الدروس الدينية منذ أكثر من عامين، أن أم العبد"تتناول شأناً من شؤون الإسلام في الجزء الأول من الدرس، ثم تناقش المشاركات في حضورها"حال مكروب"وكيفية مساعدته، بعد ذلك يدرسن أحكام التجويد ويتلين ما تيسر من الذكر الحكيم، وأخيراً يطرحن عليها أسئلة تتعلق بالحكم الشرعي لكثير من شؤون الحياة". وتؤكد فاطمة أن أم العبد لا تتردد مطلقاً في القول أنها"لا تعرف"، لكنها دائماً تستدرك بأنها"ستبحث عن الإجابة". وتلفت إلى أن الموجودات في الجلسة"يتسامرن ويتناولن الحلويات والمرطبات في طقس احتفالي من دون أن يغضبن الله". ولا يقتصر تأثير أم العبد على الجانب الديني، بل يتعداه إلى جانب لا يقل أهمية على مستوى التأثير، وهو الاقتصاد. ذلك أن أم العبد ابتدعت، بحسب مريداتها، نظرية اقتصادية تقفز خارج مفهوم الربح المعتاد: تجارة تقوم على دعوة المحتاجين إلى التسوق في معرض للملابس المستعملة ينتقون منه ما يناسبهم لقاء عبارة"جزاك الله خيراً". وهكذا استطاعت أم العبد التي لم تدرس الدين في الجامعة بل تتلمذت على يد والدها إمام المسجد، إيقاظ المبادرات الفردية من سباتها الاختياري لتضطلع بهمة إسناد المجتمع. تطوعت هي ومريداتها لحمل مسؤولية كساء فقراء الأحياء التي يسكنونها، فيجمعن الملابس الفائضة عن حاجة أصحابها دورياً، ويفرزنها لتنظيف الصالح منها وترتيبه تمهيدا لعرضه في غرفة في بيت أم العبد خصصتها لهذه الغاية، وما يفيض يذهب إلى لجان الزكاة. وتقول أم العبد وهي أم لأربعة أبناء أكبرهم يعمل داعية في الولاياتالمتحدة الأميركية:"تنطلق الحسنة من فكرة أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام". وتبرز أم العبد كحالة فرضت نفسها على عالم"كبلته المنفعة"، عبر فكرة"التآزر". ويبدو ان عملها يؤسس لمنظومة اجتماعية ذات أبعاد اقتصادية تسوق التعاضد بكفاءة. وتقدم الواعظات خدمة مهمة للالتزام الديني ويضفن إلى المجتمع التقليدي"أدوات عمل جديرة بالاعتبار والدراسة وتساعده على التماسك". أم العبد ومثيلاتها ظاهرة أفرزتها رغبة نساء في الانخراط بالدعوة وهي ظاهرة تبدو متوقعة في مجتمع محافظ، ولعلها تعبر عن ثقافة مجتمع المدينة وحراكه بأطيافه الاجتماعية والطبقية وتقاليده المتبقية، وربما تكون ميزتها ان أسلوبها في العمل والتجمع والنشاط يخفف من غلواء النمو الاجتماعي العشوائي والغربة الفجة والتحديث القسري السريع، وترى بعض المتحمسات لهذه الظاهرة"انها استطاعت أن تجعل المدينة أكثر تماسكاً وأقل وحشية". ويرى خبير الحركات الإسلامية إبراهيم غرايبة أن محافظة كل من المدينة والريف والبادية على طبيعته الثقافية والاجتماعية واشتقاق الأولويات والبرامج والأعمال منه كما هي من دون إخلال أو عبث تتيح للمجتمع تطوراً أصيلاً وحماية لمكتسبات المجتمع واستيعاباً أفضل للأفكار والثقافات الوافدة. ويبدو الحديث عن هذه الظاهرة في الأردن غير مكتمل من دون الالتفات إلى جماعة"بنات فادية الطباع"أكبر وأقوى تجمع نسائي ديني محلي، ويلفت غرايبة إلى أن"تعبير جماعة يطلق على كل مجموعة من الناس وليس المقصود به تنظيماً أو حزباً". وتقتدي مرتادات حلقات درس آنسات الطباع وهو اللقب الذي يطلق على واعظات الجماعة، بلباس فادية إذ يرتدين حجاباً بلون واحد مربوط عند العنق، وجلباباً بتفصيل مستنبط من المعطف الشامي المعروف بالترواق وغالباً ما يكون كحلي اللون. ويرى غرايبة أن طريقة عمل تلك الجماعة"منسجمة"مع ثقافة المجتمع وتقاليده، وهو ما يفسر نجاحها واستقطابها المئات من الفتيات والنساء. في وقت يرى فيه أن ما ينقصها هو"المزيد من الوضوح والعلانية وتدوين المبادئ والأفكار، وأن تقدم نفسها للناس ببساطة ودقة". ويشيع أن"الطباعيّات"يتسمن بالكثير من تقاليد الاحترام والتبجيل والتقبل المطلق للأفكار والتعاليم وهو ما يؤخذ على هذه الجماعة، ويوضح غرايبة أن"جماعة فادية متأثرة بالتقاليد الصوفية الوافدة أساساً من الثقافة الهندية القائمة على الزهد والطاعة ثم جرت أسلَمَتُها، ووجدت مكاناً وقبولاً في مجتمعنا الأبوي بطبيعته"، شارحاً أن ثمة فروقاً أساسية بين تقاليد الاحترام للكبار محلياً وبين الصوفية الهندية المستمدة من طبقية اجتماعية ودينية، وإن كان يبدو أنهما متفقتان في الممارسة والتطبيق. وتملأ حلقات الدرس الديني فراغاً كبيراً يعاني منه العمل النسائي، ويشير غرايبة إلى أن انضمام النساء إليها خير من أن تتنازعهن مؤسسات وأعمال وبرامج"معزولة وفوقية تبالغ في انبهارها بالغرب وتخلو من مضمون ثقافي أو رؤية مجتمعية". وتبدو الواعظات وتابعاتهن حتى الآن بعيدات من التنظير السياسي، ويتمنى غرايبة ألا يستدرجهن شوق إلى عمل سياسي أو تنظيمي، موضحاً أن العمل المنظم المنتج لا ينبثق بالضرورة من جماعة"منظمة ومسيسة"، والمجتمع حين يكون في عافية يملك قدرات وأدوات للعمل والحفاظ على نفسه وتطوير مكتسباته وكلما كانت البرامج والمجموعات عفوية وقريبة لهموم المجتمع حققت النجاحات.