أصبحت محاولة تفكيك صورة المثقف العربي في أهمية محاولة تفكيك صورة السلطة العربية. لا لأن هذا المثقف يبدو انعكاساً للسلطة بمعناها العام فحسب، وانما لأن هذا المثقف الداعي منذ اكثر من نصف قرن الى الحرية يبدو احياناً ممتلئاً رعباً من نيل الآخرين لحريتهم. وهذا المثقف الذي يكتب عن سجون العالم العربي يبدو مرتجفاً من امكانية تهديم الانسان العربي لسجنه ومطالبته بالافراج عنه. وهذا الكاتب الداعي الى التعددية وحقوق الانسان يشيب رأسه حزناً اذا ما رأى انساناً في عالمنا العربي يطالب بحقوقه القومية او المذهبية او الثقافية ويهرع الى التخويف مثلاً من تحول البلاد الى أزقة وحارات. وهذا المثقف الذي ينتقل من مكان الى آخر كاتباً عن الانحطاط العربي يساهم في هذا الانحطاط حين يتوجه الى اتهام كل صوت آخر يطالب بالحرية والديموقراطية خارج شروط المثقف اياه. صورة هذا المثقف هي تكوين لأجزاء متعددة في آن واحد. جزء مركب من الاحزاب والايديولوجيات التي ترى حريتها ولا ترى حرية الآخرين. وهي لاترى حريتها الا في استلام السلطة السياسية في الدولة او السلطة الاجتماعية في المجتمع او السلطة الثقافية ليعبر من خلالها عن موقعه لا عن موقفه. ومن خلال هذه السلطة يذهب المثقف الى قمع المثقف الآخر خارج هذه السلطة. اي انه يركّب سلطته على سلب سلطة الآخر. والجزء الآخر مركّب من اعتلاء المثقف للموجات. وموجة الحرية والدفاع عنها كانت وما تزال مصدراً من مصادر الرزق والجاه على الجانب الآخر للسلطة. وخارج هذه الموجة التي تدر الرزق يصبح هذا المثقف الداعي الى الحرية مذعوراً من حرية الآخر والداعي الى هدم السجون العربية مذعوراً من خروج الملايين من سجنها داعية الى الديموقراطية ضد الديكتاتورية. والمثل الأبرز على ذلك دفاع المثقف العربي عن ديكتاتورية صدام حسين بحجة الدفاع عن الشعب العراقي او محاربة اميركا. انه يضع اميركا مقياساً لعداواته وصداقته، عدو اميركا هو صديق يجب الدفاع عنه بغض النظر عن سلوكه وموقفه ونظامه السياسي. معاداة الامبريالية اذن هي الوقوف مع الديكتاتورية والتغاضي عن المجازر التي ترتكبها بحق المثقفين. ان امتداد حياة الديكتاتورية وامتداد حياة السجون العربية وامتداد هدر حقوق الانسان هي امتداد لسلطة ومصدر موقف ورزق مثل هذا المثقف. والجزء الاخر الذي تتركب منه صورة المثقف هو ولاؤه للماضي والمفهوم والنص النظري العقائدي، رغم ان هذا المثقف يهاجم النصية والماضي والتراث والمفاهيم المطلقة. انه يحافظ على مفاهيمه بالهجوم على مفاهيم الآخرين. ويحافظ على قدسية نصه بنزع القدسية عن نص الآخر. ويهاجم ماضي الآخر ويحاول طرده من الميدان لأنه يحاول سحب ماضيه هو الى هذا الميدان. فالمثقف العربي الذي يهاجم النص يقوم هجومه على نص ولا مكان للواقع في هذا النص. لذلك ليس غريباً ان الستالينية تعشعش بين الماركسيين والبسماركية تعشعش بين القوميين والحروب الصليبية تعشعش بين الاسلاميين. فصورة هذا المثقف تُبدي ان كلاً منهم اتكأ على النظرية طوال حياته وتحصن بها ضد الآخرين. ولذلك الكل يبدون خصوماً في نظر الكل. فالثقافة العربية قائمة على الألغاء وليس على التكامل والتراكم. ونعود مرة الى تفكيك صورة المثقف العربي. هذه الصورة التي تتكون من اجزاء متعددة تبدو في جزء منها صورة المثقف المهزوم الذي يحاول ان ينتصر من خلال الايديولوجيا. وفي الواقع ان استخدام الايديولوجيا كسلاح هجومي انما هو تعويض عن الهزيمة سواء كانت سياسية ام اجتماعية ام ثقافية. ولهذا بدت صورة المثقف العربي خلال نصف قرن هي صورة المحارب الايديولوجي. صحيح انه داخل هذه الصورة تبدو صورة المثقف الباحث عن الخبز والحرية. ولكن هذه الصورة لا تقوم على تعايش مشترك. اي لا اقرار فيها لحق الوجود بالنسبة للآخر. لذلك تتغلب على صورة المثقف هواجس هي مفاهيم اصلاً مثل الحقد المقدس، والثأر، والحقد الطبقي والتطهير، والاقصاء، والعدو الطبقي، وغيرها من المفاهيم التي رسمت صورة المثقف الذي استسلم لحالة صوفية وجدانية غير واعية في اغلب الاحيان. وعدم وعيها هذا قاد المثقف العربي للتخلي حتى عن رفاق دربه المثقفين والحزبيين وهو يعيش هواجس التطهير والثأر واقصاء المثقفين عن المؤسسات السياسية بسبب الرأي. كان المطلوب ان تغلب على صورة المثقف صورة الاستبسال النضالي الايديولوجي الذي يحمل الطابع العشائري مغلفا بطابع طبقي او ديني او سياسي. فالتعبير عن الذات لم يعد موجودا الا من خلال انتمائه الى جمع كيفي. لذلك تحولت صورة المثقف العربي الى صورة مثقف الفئة المؤمنة الطائفية. سواء كانت هذه الفئة قومية ام ماركسية. انه مثقف تقوده وتسوقه طائفة. وهو يعبر عن هذه الطائفة من خلال ثقافيته وهو محمي بها ومستفيد من تحقيق ذاته عبرها. ولذلك بدت الثقافة العربية في اغلب اتجاهاتها، حتى الحداثية منها، ثقافة ملة ونحلة وطائفة بالمعنى الاجتماعي والسياسي. تفكيك صورة المثقف العربي ليست امراً ممكناً دون معرفة الكائن الاجتماعي في صورة المثقف. فالاغتراب الذي يعني قيام المرء بتكريس عزلته عن وسط عمله من خلال تكريس طاقته في العمل لأجل ربح غيره يبدو واضحاً في عمل المثقف العربي. فالمثقف كائن اجتماعي فردي وذات معبرة ولكنه يتخلى عن ذلك لصالح تكريس نفسه وهويته كجزء من جماعة، ملة، طائفة، عصبة تضفي عليه ملامح الهوية. فالمثقف العربي يجسد الذات من خلال الحزب او الايديولوجيا ولا يستطيع تحقيق ذاته الا عبر الاندماج في شعار جمعي خارج شعار المجتمع. انه شعار الملة وليس شعار المجتمع. لأن شعار الملة يقتصر على تحقيق هدف الجماعة بوجودها فوق المجتمع ولذلك يلامس المثقف العربي في هواجسه وكتاباته الهدف الاعلى من خلال الهجوم على العدو السياسي والطبقي والقومي والثقافي بصنع مثال الخير على مقاسه ومثال الشر على ذلك العدو. يبدو المثقف هنا في صورة الأجير المغترب. فهو سواء كان استاذاً في الجامعة او محرراً في الجريدة والمجلة او اجهزة الثقافة والادب الاخرى فإنه يمارس دور العين الساهرة التي تراقب ان لا تخرج الايديولوجيا عن دورها التاريخي. وهو، في الحق، يبذل شجاعة فائقة في ان يكون مغترباً حقيقياً، اي انه ينزع الى نزع حريته مقابل عيش الايديولوجيا والفكرة المطلقة والوجدان السياسي فيه. كيف لا يكون معيار المثقف واحداً في كل حالة؟ انه ذو معايير مزدوجة. فهو ثوري يستخدم حرية الشعوب مقابل العدو الخارجي ولا يستخدم حرية المواطنين مقابل السلطة الرسمية. وهو قومي يستخدم الجماعة لعبادة الفرد والفكرة، وهو اصولي بمعناه السياسي يربط الثقافة بالشكل التقليدي والمثال التاريخي. يمارس المثقف العربي الثقافة كسلطة. هذه السلطة تجيز استخدام الالغاء لا التجاوز وتجيز استخدام المثقف كبوق كاستخدام جماعة المانيا الفتاة للمثقف الالماني العامل فيها، وكاستخدام القوميين والماركسيين للمثقف بصورته الواجهة الثقافية للحزب. فهذا المثقف مثقف جماعة وليس مثقف المجتمع، وهو يعمل من اجل وضع المجتمع في خدمة السلطة، سواء سلطة الدولة ام سلطة الحزب. ان نظرة شاملة على واقع الصحافة الثقافية العربية تكشف كيف تحولت الصحافة الثقافية الى اقطاعيات تمارس الاحتكار والتسويق والالغاء. ان دور المثقف كعضو في جماعة يفرض عليه محاربة الجماعات الاخرى ومحاربة الفرد لأنه ما يزال متمرداً على الانتماء الجمعي. ان رفض مثل هذا المثقف يقود الى النقيض الشكلي. فاذا كان المثقف الحزبي، هذا الكائن الاجتماعي يخرج عن كينونته حالما يخرج عن الجماعة السياسية، فانه، كفرد، يستبدل الجماعة السياسية بجماعة ثقافية. انه يحول الاتجاه الابداعي الى حزب آخر، ولهذا السبب تحولت الحداثة الى حزب ثقافي يحارب الاتجاهات الاخرى بنفس النفس السياسي الذي كان المثقف السياسي يحارب به. انه يحاول شل الآخر والغاءه. * كاتب وشاعر عراقي يقيم في بريطانيا