عندما اختار الفلسطينيون محمود عباس رئيسا للسلطة بأكثرية لا لبس فيها في انتخابات شفافة، صوتوا لرؤية واضحة لطبيعة الحل مع اسرائيل. وعندما اختار هؤلاء الفلسطينيون انفسهم اعطاء اكثرية لا لبس فيها في انتخابات شفافة ل"حماس"في الانتخابات التشريعية، صوتوا ضد الادارة الحكومية السابقة، وما رافقها من ثغرات ارتدت على وضعهم المعيشي. لكن الحل مع اسرائيل الذي يتضمن إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة لم يتقدم اي خطوة جدية منذ انتخاب عباس. لا بل شهد انتكاسة كبيرة، خصوصا مع الانسحاب الأحادي لاسرائيل من غزة. وقد يتعطل الحل نهائيا بفعل تهديد اسرائيل بالامر نفسه في الضفة الغربية. واذا كانت مسؤولية هذا التدهور تقع على سياسة الاحتلال الاسرائيلي التي تتصف بالعدوانية والأحادية ورفض الاتفاقات والتفاهمات والخطط المؤدية للحل، فإن رئاسة السلطة لا يمكنها الآن ان تقدم حصيلة لعملها، امام مواطنيها، تنسجم مع الآمال التي حركت تصويتهم في الانتخابات الرئاسية. في موازاة ذلك، أدى تشكيل"حماس"للحكومة الى زيادة بؤسهم الاقتصادي والمعيشي المرشح الى مزيد من التدهور والانهيار مع الحصار الدولي المضروب على الحكومة. ويمكن لقادة"حماس"ان يقدموا سلسلة طويلة من الاسباب والتبريرات السياسية للحصار، خصوصا ما ارتبط منها بالعوامل التي تتحكم اسرائيل بها، لكن النتيجة واحدة بالنسبة الى المواطن في الضفة وخصوصاً في غزة. وهي افتقاد اللقمة والدواء والماء والمدرسة. ولم تؤد كل المحاولات البديلة التي حاولتها الحكومة و"حماس"الى تعويض الحد الادنى التي وعدت به. العمليتان الانتخابيتان الرئاسية والتشريعية لم تؤديا، بغض النظر عن الاسباب والدوافع الكثيرة والتي كثير منها لا يرتبط بالفلسطينيين، الى ما كان يأمل الناخب منهما. وإضافة الى الاحباط السياسي واليأس الاجتماعي، انتهت العمليتان الى انقسام كبير في القيادة الفلسطينية، والى تمزق أمني وسياسي وحتى مناطقي، بين القطاع والضفة، والى اشتباكات مسلحة بعضها معروف الاسباب والفاعلين وبعضها مجهول. اي ان المأزق الذي جاءت الانتخابات لتعالجه اتسع وتعمّق الى الحد الذي جعل عباس يتحدث بتلك اللهجة الدراماتيكية، لدى افتتاح الحوار، عن الوضع الفلسطيني وعن خسارة الوقت في مساعي التوصل الى توافق بين الشرعيتين، الرئاسية والحكومية، المتعارضتين الى حد المواجهة المسلحة. وفي هذا المعنى ينبغي فهم التحذير الخطير الذي اصدره الرئيس مبارك، بعد محادثاته الاحد مع اولمرت، عندما طلب من"الفلسطينيين، في فتح وحماس، ان يحلوا مشاكلهم حتى يمكن بعد ذلك المساعدة في التفاوض مع اسرائيل للوصول الى حل. ولكن اذا استمرت المشاكل وهذا الصراع، اعتقد بأنهم سوف ينشغلون جميعا عن عملية السلام". هذا التحذير جاء بعدما استمع الرئيس المصري الى رئيس الحكومة الاسرائيلية الذي شدد على انه ذاهب في مشروعه الأحادي في غياب المفاوضات التي تفترض شريكا فلسطينيا يبدو ان الرئاسة والحكومة لم تتوصلا بعد الى مواصفاته. المأزق الفلسطيني الذي يأمل بعضهم في ان يحصل خلال ساعات قليلة، قبل انتهاء فترة الانذار للتوافق على"وثيقة الاسرى"، يرتبط بالوقت وبالوقائع على الارض التي يسعى الاحتلال الى تكريسها وجعلها غير قابلة للعودة عنها. ويعتبر عباس ان الوضع الفلسطيني الضعيف اصلا بفعل عسكرة الانتفاضة غير قادر على التأثير في هذين العاملين، خارج التزامات السلام التي وقعتها السلطة. في حين تعتبر"حماس"ان طبيعة الصراع الطويلة المدى هي التي تعوض الضعف الحالي، وتاليا من غير الضروري تقديم التنازلات التي تطالب بها الاتفاقات الموقعة مع اسرائيل. لا عباس سيقنع"حماس"بضغط الوقت واخطار الأحادية الاسرائيلية وضياع فرصة السلام، ولا"حماس"تستطيع ان تقنعه بان الحل مع اسرائيل يجب ان يترك للاجيال المقبلة. وماذا عن الفلسطينيين في الضفة والقطاع الموعودين باستمرار انقطاع العمل ولقمة العيش... والحرب الاهلية الزاحفة؟ الصراع الداخلي يُخاض باسمهم وباسم اصواتهم التي ادلوا بها في الانتخابات. لكن الوضع الراهن يحمل معطيات ومخاطر ومعاناة جديدة ينبغي ان يُستشار الفلسطينيون فيها، والتأكد من رغبتهم في كيفية التعامل معها. ولذلك يبقى الاستفتاء هو السبيل المباشر من اجل الحسم بين الشرعيتين التي تستند كل منهما الى اقتراع شعبي. فاعتماد"وثيقة الاسرى"، يعني ان الفلسطينيين سحبوا ثقتهم من"حماس"التي عليها عندذاك ان تتخلى عن الادارة الحكومية. وسقوط"الوثيقة"في الاستفتاء يعني ان على عباس ان ينسحب ويترك ل"حماس"فرصة كاملة لادارة حياة الفلسطينيين والصراع مع اسرائيل معا.