يبدو المشهد الفلسطيني هذه الأيام متأزماً كأنه يدخل في نفق مظلم أو في متاهات لا نهاية لها ولا توصل إلا الى طريق مسدود يقابله مشهد اسرائيلي مماثل وآخر عربي يعيش متاهات الضياع والارتباك والركود العجز عن المبادرة والشلل في مراكز اتخاذ القرار... أي قرار حتى ولو في الشكل من اجل رفع"العتب"أمام الجماهير... وفي وجه العالم المتمادي في تجاهل الحقائق والمتغاضي عن مبادئ الشرعية الدولية والغارق في خطيئة ممارسة ازدواجية المعايير واتخاذ المواقف العرجاء المنحازة للعهر الصهيوني. هذا هو التحليل المبدئي للأوضاع التي آلت إليها القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي في شكل عام عند النظر إليها من زاوية الواقع الراهن بعد تسلم حماس مقاليد الحكم، لا السلطة في الأراضي الفلسطينية الخاضعة لها شكلياً وفوز حزب كاديما ومن تحالف معه لتشكيل حكومة اسرائيلية ائتلافية... لكن التحليل المنطقي للأحداث يفترض جدلاً حدوث متغيرات في المواقف والسياسات ووقع تطورات ومفاجآت تفتح نوافذ على المدى البعيد، إذ ان كل الدلائل تشير الى ان المأزق الراهن يبدو متعمقاً في الجذور والخلفيات والبديهيات على المدى المنظور. المأزق صعب لكن المخارج المرتقبة ليست مستحيلة لو عدنا الى التسلسل المنطقي لتطورات القضية والتفاؤل متاح في حال لجوء جميع الأطراف المعنية: فلسطينياً وإسرائيلياً وعربياً ودولياً الى الحكمة والمرونة والاعتدال لتمهيد الأجواء لتحرك عقلاني - عملي يعيد مسيرة السلام الى مسارها الطبيعي ويحد من مخاطر الجنوح نحو مواجهة مدمرة قد تؤدي الى انفجار كبير تطاول شظاياه الجميع وفي مقدمهم الحكومة الإسرائيلية الجديدة إن لم نقل إسرائيل ككل. ولو نظرنا الى الواقع بتجرد لتأكدنا من ان المأزق الراهن يشمل جميع الأطراف المعنية بمخاطره. فلا أحد يحسد حماس على فوزها في الانتخابات وانتصارها الملغم بألف صاعق تفجير، ولا تسلمها الحكم في ظروف صعبة ومحرجة في التوقيت والشكل والموضوع والجوهر. ولا أحد يحسد حزب كاديما بزعامة إيهود أولمرت على فوزه الناقص في الانتخابات العامة واضطراره للبحث عن شركاء في ائتلاف سيبقى مهزوزاً ومعرضاً للأزمات وخاضعاً للابتزاز مما يدفعنا لوصف هذا الفوز بالنصر الهزيل او بنصف نصر ونصف هزيمة. ولا أحد يحسد العرب على مواقفهم المترددة والخجولة داخل قمة الخرطوم الفاشلة وخارجها، إن لم نقل ان طرفاً واحداً وهو اسرائيل يشعر بالشماتة والفرح لهذه المواقف التي لم تتمكن من التوحد والحسم في مسألة دعم تطلعات الشعب الفلسطيني وخياراته والأخذ بيد حكومة حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية للتعايش أولاً ثم لمواجهة المخاطر المرتقبة والمتمثلة في تنفيذ المرحلة التالية من المخطط الصهيوني لإحكام السيطرة على الأراضي الفلسطينية وتشديد طوق الحصار على الشعب الفلسطيني ورسم حدود اسرائيل المفروضة بحق القوة اللاشرعية وهدر قوة الحقوق المشروعة للفلسطينيين. أما مأزق الدول الكبرى، ولا سيما الولاياتالمتحدة التي يفترض انها تقوم بدور راعي المفاوضات وعراب السلام في خريطة الطريق مع أوروبا وروسيا والأمم المتحدة في نطاق اللجنة الرباعية، فيتمثل في ازدواجية المعايير والكشف عن أقنعة التضليل الصهيوني. فمن جهة هي تطالب هذه الدول بنشر الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان ثم تتخذ مواقف ملتبسة تقاطع فيها حكومة اختارها الشعب الفلسطيني في انتخابات اعترفت بأنها كانت حرة ونزيهة وتتغاضى من جهة ثانية عن انتهاكات اسرائيل لحقوق الإنسان ونقضها لجميع اتفاقات السلام ومخالفتها القرارات الشرعية الدولية واستمرار احتلالها وتهويدها لأراض فلسطينية تخضع لهذه القرارات التي تطالبها فيها بالانسحاب الكامل الى حدود 4 حزيران يونيو 1967، أي كامل أراضي الضفة الغربية بعد انسحابها الأحادي من قطاع غزة العام الماضي. فمأزق ايهود أولمرت وحزب كاديما متشعب ومعقد ولا يقل صعوبة عن مأزق الطرف الفلسطيني، إن لم يكن مشابهاً له، ويمكن تلخيص مفاصله بالنقاط التالية: - إن أولمرت واجه صعوبة في تأليف حكومة ائتلافية مع حزب العمل وبعض الأحزاب الدينية الصغيرة مما سيحد من قدراته على اتخاذ القرارات المتعلقة باستراتيجيته المستقبلية، وربما يتسبب بشل قدرته على الاستمرار واضطراره للدعوة الى انتخابات مبكرة اخرى تكراراً لدوامة الأزمات التي تمر بها المؤسسات السياسية في إسرائيل منذ عقد من الزمن. كما ان الابتزاز الذي تعرض له من شركائه حول المناصب والمغانم والمكاسب سيكبل يديه ويضعف من طموحاته في التحول من دور الرجل الثاني التابع الى الرقم واحد أو الزعيم الفعلي كغيره من معظم رؤساء الحكومات الإسرائيلية. - إن ظل شارون وليكود واليمين المتطرف سيظل يلاحق أولمرت حتى ولو حاول ان ينأى بنفسه عنه. فحزب كاديما ما هو في الواقع إلا ليكود بوجه آخر أو مجرد تجمع لمجموعة من الليكوديين باسم جديد. كما ان المبادئ التي يتضمنها برنامجها الانتخابي، ثم سياسته الحكومية، ما هي إلا نسخة غير منقحة من الشارونية من دون شارون المسجى على فراش الغيبوبة. - ستضطر حكومة أولمرت عاجلاً أم آجلاً الى التعامل بواقعية مع الجانب الفلسطيني، فهو غير قادر على تجاهل التطورات والواقع الجديد كما انه سيضطر لمسايرة الأصوات العربية في الكنيست كصمام أمان في حال تعرضه لابتزاز من احد شركائه. - سيواجه أولمرت بضغوط من مصر وغيرها ومن جهات دولية في حال سلكت حكومة حماس نهجاً براغماتياً ونجحت في الحفاظ على اتفاق التهدئة وأثبتت وجودها وقدرتها على الإمساك بزمام الأمور وضبط الأوضاع الأمنية وصمودها في وجه الضغوط والحصار المضروب حولها. - إن تنفيذ مخططات العزل وترسيم الحدود من جانب واحد لن يمر بسهولة ولا بد من ان يصطدم بعقبات، ويجبه بمقاومة من الإسرائيليين والفلسطينيين في آن. فإخلاء المستوطنات البعيدة في الضفة سيؤدي الى عصيان ومجابهات دموية تفوق في حدتها ما جرى عند اخلاء مستوطنات غزة. كما ان الفلسطينيين لن يسكتوا على هذا المخطط الذي يقضم اكثر من 60 في المئة من اراضي الضفة الغربية ويفرض تهويد القدس بالكامل ويسد الأبواب امام اية مفاوضات على مصير القدس العربية وهو ما سيؤدي الى نقل الصراع الى العالمين العربي والإسلامي وفرض تحرك دولي يحد من جموح أولمرت ومطامع حكومته. اما مأزق حكومة حماس فتتلخص مفاصله في النقاط الآتية: - تأمين الحد الأدنى من المطالب الحياتية للشعب الفلسطيني وسط حصار إسرائيلي محكم ودعم دولي متوقف ومساعدات عربية شحيحة وموارد مالية هزيلة وأوضاع معيشية صعبة، وإدارات متهالكة، وفساد أفرغ الخزينة من آخر قرش فيها وبنى تحتية شبه مدمرة. - التعايش مع السلطة الفلسطينية المتمثلة بالرئيس محمود عباس أبو مازن وتجنب حدوث مواجهات قد تؤدي الى ازمة حكم ومجابهة لا يستفيد منها سوى الأعداء. وبالتالي التعايش مع منظمة التحرير الفلسطينية وهي القيادة الأم للسلطة الحالية وللحكومة والشعب الفلسطيني في الداخل وديار الشتات ومحاولة إيجاد وسيلة عملية للحوار من اجل إصلاح احوالها وتفعيل مؤسساتها ودورها الداخلي والعربي والدولي. - فتح باب الحوار الجدي والبنّاء مع حركة فتح والفصائل الأخرى من اجل تأمين وحدة الصف في هذه المرحلة الحرجة وتجنب كل ما يمكن ان يتسبب بالمواجهة المسلحة وإثارة الفتن وصولاً الى ما يحلم به الأعداء، وهو إشعال نار حرب أهلية فلسطينية تدمر ما تبقى من بنيان وتحرق الأخضر واليابس وتحصد أرواح الشعب الفلسطيني لتوصله الى حافة اليأس. ويجب على حماس ايضاً ألا تقلل من حجم فتح ولا تنتقص من دورها ونضالها عبر التاريخ. - التنزّه عن الصغائر والصبر على الشدائد والتصميم على النجاح مهما كانت المصاعب والأعباء وتجاوز العراقيل والعقبات والتعالي فوق الجراح من اجل إثبات الوجود وتأكيد النجاح في الامتحان الصعب الذي تكرم فيه حماس أو تجهض تجربتها وهي في مرحلة التكوين. - انتهاج سياسة عقلانية وواقعية والبعد عن الغلو والتطرف وتجنب إعطاء الحجج والذرائع للعدو لكي يستخدم قبضته الوحشية مرة أخرى وينفذ تهديداته باغتيال قادة حماس ووزراء حكومتها العتيدة. - فتح نوافذ الحوار مع الدول العربية والإسلامية لتأمين الدعم المادي والمعنوي والسياسي الفعلي. - فتح نوافذ اخرى للحوار مع الدول الكبرى لحملها على احترام إرادة الشعب الفلسطيني وإزالة الالتباس في مواقفها والتراجع عن اتهام حركة حماس بالإرهاب، خصوصاً انها انتقلت بالطرق الديموقراطية الأصيلة من مرحلة المقاومة المسلحة الى مرحلة بناء الدولة والمقاومة السياسية والسلمية. - معالجة الملفات الداخلية خصوصاً ملفات الفساد بعيداً من اساليب التشفي والانتقام وفرض سيادة القانون وأولوية العدالة وتجنب استفزاز"فتح"في فصل الإداريين والأمنيين وكوادر السلطة الإدارية. - فرض الأمن بالقوة العادلة ومواجهة الفلتان الأمني وانتشار السلاح في الشوارع بحزم وحسم وتوحيد البندقية تحت مظلة السلطة الفلسطينية التي تملك وحدها قرار السلم والحرب والمقاومة بشتى اشكالها وظروفها ومواقيتها. ولا يخفى على احد ان هذه المهمة صعبة، إن لم نقل مستحيلة، ولكن مسؤولية الأطراف والفصائل الأخرى توازي مسؤوليات الحكومة إن لم نقل أكبر لأن من واجبها ان تمنحها فرصة لإثبات مدى قدرتها على النجاح في الحكم وتحقيق مطالب الشعب وتأمين المصالح الفلسطينية وبعدها يمكن الحديث عن المحاسبة والمعاقبة، علماً ان اكثر من طرف يراهن على فشل حماس ويمهد للاحتفال بشماتة بهذا الفشل. ومصر والأطراف العربية الأخرى مدعوة للعب دور في التهدئة وتأمين منح هذه الفرصة ومنع وضع العراقيل وزرع الألغام في طريق حكومة حماس، فإن أثبتت وجودها ونجحت في اجتياز المركب الصعب فإنها تكون حققت ما فشل غيرها في تحقيقه للقضية الفلسطينية، وإن تعثرت فالطريق مفتوح امام الآخرين للعودة الى تسلم زمام الحكم من جديد. فأمام حماس تجارب عدة قد تقع في إحداها أو تختار الأفضل والأسلم منها: - تجربة الجزائر: عندما قامت السلطة بإلغاء نتائج الانتخابات العامة ورفض الاعتراف بالفوز الساحق لجبهة الإنقاذ الإسلامية ثم حدث ما حدث من فتن وسفك دماء. ويخشى ان تقع مواجهة بين حماس والرئيس الفلسطيني يضطر بعدها الى تلبية نداءات البعض لحل المجلس التشريعي وإقالة الحكومة والدعوة الى انتخابات جديدة. وستكون لهذا الإجراء تداعيات خطيرة قد يتسبب بنتيجتها في إشعال نار حرب أهلية ومواجهات لا يعرف غير الله عز وجل عواقبها ومداها. - تجربة الأردن: عندما أتاح الملك الراحل حسين للاخوان المسلمين، أو جبهة العمل الإسلامي، المجال لتشكيل حكومة أسهمت عوامل عدة في استنزاف طاقاتها وإفشالها وإجهاض التجربة قبل ان تكتمل مقوماتها. - تجربة السودان: يوم وقع انقلاب جبهة الإنقاذ العسكري التي حملت شعارات إسلامية بالتحالف مع الدكتور حسن الترابي الأمين العام للجبهة القومية الإسلامية، لكن سرعان ما انفصمت أواصره ووقع الانشقاق والطلاق البائن فبقيت الشعارات قائمة في الظاهر وتخلى الحكم عن الجوهر في الباطن. - تجربة تركيا: وهي حتى الآن تجربة ناجحة تلقى احتراماً وأصداء في العالم حيث استطاع الحزب الإسلامي بقيادة رجب طيب اردوغان المضي في الحكم واجتياز المصاعب مع تأمين التعايش بين حكومة إسلامية ودولة علمانية تؤمن مصالح تركيا وتطلعاتها. وبانتظار ان ترسم حماس"خريطة طريقها"يصعب على المحلل رسم صورة مستقبل القضية في ظل حكومة حماس الفلسطينية وحكومة كاديما الائتلافية الإسرائيلية وهما في بدايات ممارسة الحكم وترويض الظروف الجديدة. إلا ان في يد حماس وقادتها رسم طريق النجاح اذا سمح للحكومة بممارسة الحكم الفعلي وابتعدت عن الغلو وانتهجت سبيل الحوار والحكمة والواقعية. فالصبر مفتاح الفرج، وعامل كسب الوقت مهم جداً لحكومة حماس، فإذا تمكنت من الصمود لفترة من الزمن، فإن جميع الأطراف ستتحرك لإيجاد مخرج للمأزق الراهن. وعلينا ألا ننسى ان منظمة التحرير الفلسطينية كانت مقاطعة دولياً وموصوفة بالإرهاب، فإذا بإسرائيل والعالم كله يعترف بها بعد صمود استمر سنوات عدة ثم يتعامل معها ويعقد الاتفاقات، كما ان الرئيس الشهيد عرفات كان مصنفاً بأنه الإرهابي الرقم واحد في العالم، فإذا بالأبواب الموصدة تفتح امامه وينال جائزة نوبل للسلام ويضرب الرقم القياسي في ارتياد البيت الأبيض الأميركي. إنه عصر جديد للقضية الفلسطينية وبداية جديدة وعودة الى نقطة الصفر. والحكمة وحدها يمكن ان تحقق لها النجاح والانفراج وتبعدها عن خط النهاية. ولا بد من ان يفهم العالم الرسالة بأن المقاطعة لن تجدي نفعاً مع هذا الشعب الفلسطيني الصابر المجاهد الذي ضرب المثل الأعلى في التضحية والوطنية والفداء من فتح الى حماس. * كاتب وصحافي عربي.