إذا كان هدف الفصائل الفلسطينية هو حقا تحقيق وحدة الشعب الفلسطيني والتفافه حول استراتيجية جديدة أكثر فعالية لإدارة الصراع مع إسرائيل فمن المؤكد أن هذا الهدف لن يتحقق بطرح وثيقة لم يتم الاتفاق عليها بعد بين هذه الفصائل لاستفتاء شعبي عام. والأرجح أن يؤدي طرح وثيقة ما تزال خلافية لاستفتاء شعبي عام إلى انقسام جديد على مستوى الشارع الفلسطيني يضاف إلى انقسام الفصائل القائم حاليا بالفعل، وهو انقسام ستكون له عواقب وخيمة على نضال الشعب الفلسطيني الذي تحدق به الأخطار من جانب وتحول دون حصوله على حقوقه المشروعة. ولا يستطيع مراقب مثلي يتابع الوضع من بعيد - من منطلق الحرص على القضية الفلسطينية وليس على أي فصيل بعينه - إلا أن يدرك هذه الخطوة باعتبارها حلقة جديدة في سلسلة مخطط إفشال حماس. ولو كان بإمكان أحد أن يقنعني بأن التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، حتى في حدودها الدنيا على النحو الذي عكسته مبادرة قمة بيروت العربية، تمر حتماً بهذا باستفتاء يبدو واضحاً أنه يستهدف إسقاط حكومة حماس وإخراجها من السلطة, لما ترددت لحظة واحدة في الترحيب به على أمل أن يشكل مخرجاً للمأزق الراهن. لكن المشكلة الحقيقية أن عباس يقدم بهذا الاستفتاء على مغامرة خطيرة من دون أن تكون لديه، أو لدى أي من الأنظمة العربية التي تشجعه على ذلك حرصاً منها على علاقتها الحميمة بإسرائيل والولاياتالمتحدة، أي أوراق حقيقية تضمن حقوق الشعب الفلسطيني. عمر المبادرة العربية الآن أكثر من ثلاث سنوات، وإسرائيل لم تعر هذه المبادرة اي احترام وتعاملت معها باستخفاف وصل إلى حد الاحتقار والتهكم. وجاء عباس أولا كرئيس للحكومة الفلسطينية بضغط من الولاياتالمتحدة وإسرائيل ودعم من الاتحاد الأوروبي. ولو كان الذين دفعوا عباس وشجعوه هو ونفر من رفاقه، لا أشك لحظة في وطنيتهم رغم اختلافي مع منهجهم, للانقلاب على عرفات يريدون حقاً مساعدته على التوصل إلى تسوية على أساس المبادرة العربية لما كانت الأوضاع على الساحتين الفلسطينية والعربية تدهورت إلى هذا الحد. فعرفات لم يكن ضد المبادرة العربية بل كان من أكثر المتحمسين لها والداعين إليها. وحين قررت إسرائيل التخلص من عرفات نهائياً، بعد أن اعتبرت وجوده عقبة لا تتيح لعباس حرية الحركة, لم يتردد الشعب الفلسطيني في منح عباس ثقته لعله يستطيع وهو على رأس السلطة ويعاونه رئيس وزراء متناغم مع سياساته، أن يصل إلى شيء. أكثر من ذلك فإن حماس نفسها لم تتردد، وهي في المعارضة، من تسهيل مهمة عباس ومدت له يد العون، من منطلق سد الذرائع، حين وافقت على هدنة التزمت بها على أمل أن يتمكن من انتزاع الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني. ولو كان عباس حصل على ما يشفي غليل الشعب الفلسطيني لما كانت حماس وصلت إلى السلطة أصلا. غير أن أن المشكلة الحقيقية أن إسرائيل ليس لديها ما تعطيه للشعب الفلسطيني، والمجتمع الدولي عاجز عن فرض حل وفقا لقواعد الشرعية الدولية والقانون الدولي، في وقت لا يبدو فيه الشعب الفلسطيني، وبعد كل هذه التضحيات، مستعداً للتفريط في حقوقه التاريخية غير القابلة للتصرف. والحقيقة أن الشعب الفلسطيني لم يمنح ثقته لحماس إلا يأسا في فتح وفي الدول العربية وفي المجتمع الدولي. كنت آمل بأن ينتهز عباس ملابسات وصول حماس إلى السلطة ليحولها إلى ورقة ضغط على إسرائيل وعلى المجتمع الدولي، على الأقل لانتزاع اعتراف غير مشروط بالمبادرة العربية والحصول على تعهد والتزام بتنفيذ هذه المبادرة وفق جدول زمني متفق عليه في حال موافقة حماس عليها. وللوصول إلى هذا الموقف التفاوضي الصحيح كان يتعين على عباس التحرك على أرضية بديلة لتلك التي ثبت فشلها والاقتراب أكثر من حماس، من دون تبني كامل استراتيجتها بالضرورة، على نحو يمكنه من تشكيل فريق تفاوضي واحد قادر على قذف الكرة في ملعب الخصم الحقيقي وتسديد الكرات في مرماه. غير أنني لا أتردد في القول إن عباس خيب أملي حين راح، وبتشجيع واضح ليس فقط من إسرائيل والولاياتالمتحدة ولكن من عدد من الدول العربية أيضا للأسف، يعتبر حماس، وليس إسرائيل، هي الخصم الرئيسي الذي يتعين تسديد الكرة في مرماه. كان بوسعي أن أفهم إصرار عباس على انتزاع اعتراف مسبق من حماس بإسرائيل وبالمبادرة العربية لو أنه كان أصر أن يحصل على اعتراف مواز ومتزامن من إسرائيل بقبول الانسحاب إلى حدود 67 وعودة اللاجئين, حسب نص المبادرة العربية، وبالتزام مواز ومتزامن من المجتمع الدولي بفرض تسوية على أساس هذه المبادرة. أما أن يضغط عباس على حماس وحدها من دون أن يكون في يده أي شيء سوى وعود هلامية ثبت أنها لا تسمن ولا تغني من جوع فهذا منهج أبسط ما يقال عنه إنه يخالف أبسط قواعد علم إدارة الصراعات الدولية. ولا يمكن فهم إصرار عباس على أجراء الاستفتاء وإصدار قرار بتحديد موعد له رغم رفض عدد من الفصائل له وما يحيط به من شكوك بعدم الدستورية، سوى أنه محاولة لمحاصرة حماس وإجبارها على تقديم تنازلات مجانية لن تستفيد منها في النهاية سوى إسرائيل. إن طرح موضوع مختلف عليه للاستفتاء, توافق عليه الرئاسة وتعترض عليه الحكومة، لن يحل أي شيء وإنما على العكس سيعقد الوضع الفلسطيني تعقيداً هائلاً وسيدفع به نحو أزمة لا مخرج منها. فحتى إذا افترضنا أن جميع الفصائل الفلسطينية وصلت إلى درجة من النضج تجعلها حريصة كل الحرص على عدم دفع الأمور نحو حافة الحرب الأهلية، فما الذي يمكن أن يحدث إذا لم تتوصل الفصائل إلى اتفاق وطرح الأمر للاستفتاء الفعلي يوم 26 تموز يوليو المقبل. بوسعنا تصور سيناريوات ثلاثة: السيناريو الأول: أن تصوت الغالبية لصالح وثيقة الأسرى. وبما أن حماس ترفض هذه الوثيقة، أو بالأحرى تتحفظ عن بعض فقراتها، فلن يكون لهذا التصويت من معنى سوى أن الشعب الفلسطيني لا يقرّ حكومة حماس على مواقفها وسياساتها، وبالتالي فلن يكون أمامها في هذه الحالة سوى تقديم استقالتها. غير أن استقالة حكومة حماس لن تنهي المشكلة. فحماس تتمتع في المجلس الوطني الفلسطيني بغالبية برلمانية لا تستطيع أي حكومة فلسطينية أن تبقى في السلطة من دون استمرار ثقتها فيها. ولأنه من غير المحتمل في هذه الأجواء المتوترة أن تشارك حماس في حكومة وحدة وطنية وفق برنامج سياسي يستند إلى وثيقة لم توافق عليها, فلن يكون أمام رئيس السلطة من خيار آخر في هذه الحالة سوى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. ويبدو أن هذا هو الهدف الذي سعى إليه عباس بالفعل من وراء قراره المبكر بطرح الأمر للاستفتاء في إطار استراتيجية إفشال حكومة حماس, والتي كان واضحاً أن فتح تبنتها من اللحظة الأولى لفوز حماس. وربما تكون استطلاعات الرأي الأخيرة، التي تؤكد أن غالبية الشعب الفلسطيني تؤيد مبادرة الأسرى، لعبت دوراً في تشجيع عباس على المضي قدماً في هذا الطريق وإقناعه ليس فقط بأن الاستفتاء سيحسم لصالحه بل وأيضاً بأن فتح ستفوز في الانتخابات البرلمانية المبكرة إذا ما قرر إجراءها على الفور. ومن الواضح أن هذا السيناريو بني على افتراضات قد تثبت صحتها أو لا تثبت وليس على تقديرات مؤكدة. السيناريو الثاني: أن ترفض غالبية الشعب الفلسطيني وثيقة الأسرى. ونظراً الى أن رئيس السلطة الفلسطينية تبنى هذه الوثيقة إلى درجة تحدي حماس بطرحها للاستفتاء رغم تحفظها عليها، فلن يكون لرفض الغالبية لها سوى معنى واحد وهو أن الشعب الفلسطيني لا يقر عباس على موقفه وسياساته، وبالتالي لن يكون أمامه في هذه الحالة من خيار آخر سوى تقديم استقالته، وهو ما سيعني خلو منصب رئاسة السلطة الفلسطينية وظهور الحاجة إلى انتخابات رئاسية جديدة. وهنا لا بد أن يجد الجميع أنفسهم أمام مأزق جديد. فإسرائيل والمجتمع الدولي، بل وربما تعمل الدول العربية أيضاً على عرقلة الانتخابات خوفاً من فوز شخصية من حماس بها، أو على التدخل فيها وتزويرها. وفي كلتا الحالتين ستحدث كارثة لأن الأمور يمكن أن تنقلب إلى فوضى شاملة. وحتى إذا افترضنا جدلا أن إسرائيل وافقت على إجراء انتخابات رئاسية نظيفة، وخاضتها حماس أو شخصية مستقلة تحظى بثقتها وفازت فيها, فقد يؤدي هذا إلى الحل إلى تجاوز مشكلة ثنائية السلطة لكنه سيخلق مشكلة جديدة أكبر وأعمق مع إسرائيل والمجتمع الدولي لأننا سنكون إزاء سلطة فلسطينية موحدة لا تعترف بإسرائيل، ويمكن لهذه الأخيرة أن تتخذها ذريعة للإعلان رسمياً عن تحويل جدار الفصل العنصري إلى حدود موقتة أو حتى دائمة لها. أما إذا تقدم عباس للانتخابات مرة أخرى، أو رشحت فتح شخصية لها حظوظ أوفر، مثل مروان البرغوثي، وفازت فمعنى ذلك أن الشعب الفلسطيني سيعود للمربع الرقم واحد وأن الانتخابات الرئاسية لا بد ستعقبها حتما انتخابات برلمانية جديدة. وهكذا دواليك. السيناريو الثالث: أن تقاطع حماس وفصائل أخرى الانتخابات، حتى يسهل على الجميع التحلل من نتائجها، أيا كانت، عن طريق الشكيك فيها أو في شرعية الاستفتاء أصلاً. وبصرف النظر عن شكل السيناريو المرجح أو الأوفر حظاً في التحول إلى واقع، فمن الواضح أن أياً منها لن يشكل مخرجاً للأزمة، بل على العكس سيزيدها حدة وسيقترب بها من حافة الانفجار. وفي أحسن الأحوال، ستبدو الأزمة الفلسطينية وكأنها أزمة تتعلق بشرعية التمثيل الفلسطيني وليس بواقع الاحتلال، في وقت ينبغي أن يتركز جهد الجميع ويتوحد حول كيفية دفع مطالب التحرر الوطني قدماً إلى الأمام. فالطبيعي أنه عندما يكون الوطن محتلا أن تحسب الشرعية بمقدار الجهد المبذول من أجل التحرير وليس بعدد الأصوات في انتخابات تجري تحت سيطرة الاحتلال. ولهذا السبب لا يوجد في تقديري أي خيار آخر سوى تعايش الفصائل الفلسطينية جميعها في ظل حكومة وحدة وطنية وتحت سقف برنامج موحد يجمع بين المقاومة والتفاوض في آن واحد. إن النص الذي قدم باسم الأسرى الفلسطينيين, والذي لم يشارك في وضعه في الواقع سوى عدد محدود منهم بل وتنصل منه بعض من وقع عليه، ليس نصاً مقدساً. واعترف الجميع بأن هذا النص يصلح أساساً معقولاً لحوار وطني شامل وليس كحيلة لضرب الخصوم. ولذلك يجب أن يستمر هذا الحوار وأن تعطى له الفرصة كاملة كي يثمر ويتم الاتفاق على كل التفاصيل وكل الآليات التي تسمح بتحويله إلى سياسات وبرامج ليس فقط قابلة للتنفيذ على ارض الواقع, ولكن قابلة أيضاً للرقابة وتحديد المسؤوليات والالتزامات. فلا معنى للموافقة على نص عام يضاف إلى نصوص كثيرة يفسرها كل طرف على هواه, ويخضعها لتقلبات وموازين القوى المتحركة على الساحة. ورغم اعتقادنا بأن قرار السيد محمود عباس تحديد موعد للاستفتاء لم يكن قراراً حكيماً أو سديداً، ويضاعف من أجواء التوتر القائمة بين الفصائل، إلا أن الوقت لم ينفد بعد ولا تزال الفرصة قائمة للوصول إلى صيغة تحظى بالإجماع. ربما يكون من الأفضل نقل الحوار إلى عاصمة عربية، سواء كانت القاهرة التي شهدت جولات ناجحة يتعين البناء عليها، وصنعاء التي دعت لاستضافة هذا الحوار. ولا بأس من جهد عربي جماعي في هذا الصدد إن خلصت النوايا حقاً. ويا حبذا لو رعت هذا الحوار مجموعة دول ولتكن مصر والسعودية وسورية واليمن، في مؤتمر يعقد في الرياض مثلاً. فالنتائج التي ستترتب على طرح وثيقة الأسرى للاستفتاء وخيمة، ويستحق الأمر من الدول العربية أن تتحسب لها بعمل وقائي وبأقصى قدر من الجدية. فهل استوعبت الفصائل أو الدول العربية الدرس؟ أم أنها لا تزال في حاجة إلى كوارث عربية جديدة قبل ان تنتبه وتفيق؟ * كاتب مصري.